كثيرة هي الأوصاف وطويلة هي قائمة النعوت التي رمانا بها غيرنا نحن أمة الإسلام فقد قيل بالأمس القريب أننا “رجل مريض”، وأننا عالة على أهل الأرض، وأننا هالة من الهاموش الأصغر، لا تعرف له وحدة ولا اجتماع إلا حيث القذارة، وقيل أننا أمة بربرية شعارها قطف الرقاب واستباحة الدماء، ثم أننا أمة ماتت وشيع الناس جثمانها فلم يبق لها أثر اللهم أشباح وبقايا بشر.
إننا حينما نواجه هذا السيل العرم من هذه الاتهامات المكالة لهذه الأمة، لنعلم علم اليقين أن هذه النعوت ما كانت لتكون حتى يوم كنا نحن العرب على شر وجاهلية، كما شهد بذلك أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، يوم كنا قطاع طرق، ويوم كانت عبادتنا عند البيت العتيق مجرد مكاء وتصدية، ويوم كان شرب الخمر ونظم الشعر الماجن ونفخ المزمار شرعة ودينا, ولكنها ضريبة القيمة المضافة قيمة انتسابنا لهذا الدين العظيم، وإننا مهما نروم العزة -وقد رمناها بدونه- في غيره تأتي المذلة وتصير جغرافيتنا قصعة “ثريد” تهواها أفئدة الأنعام وتتداعى عليها حفدة القردة والخنازير، وعبدة الصليب.
إلى الذين يشاطروننا اللون .. وينأون عنا بالقول والمعتقد
فإلى الذين يشاطروننا اللون والسحنة والملامح والقسمات، وينأون عنا بالقول والمعتقد.
إلى الذين جعلوا جغرافية الغرب قبلة لهم يتهجدون لها بنافلة القول، ويقومون لكل ما هو وافد علينا منها إجلالا وتعظيما، ويطأطئون هاماتهم سمعا وطاعة.
وإلى الذين يخوضون سجال مدح السيد الأبيض ويضربون له المثل في ضبط المواعد والوفاء بالعهود وتأدية الأمانة وهلم جر من المزايا والقيم الرفيعة بدءً بحقوق الذبابة وانتهاء بحقوق الإنسان, وفي مقابل هذه السمفونية من المدح تجدهم لا ينظرون إلى أمتهم أمة إماطة الأذى عن الطريق، أمة إفشاء السلام، إلا بعين ناقمة ولسان ناقد حقود وقلب لا يعرف بهجة إلا في انتكاث شملنا، وذهاب ريحنا وانفراط عروتنا.
إلى هؤلاء الذين فضلوا قصدا أو جهلا أن يكونوا مجرد أبواق بيد “الآخر” وأن يخوضوا معركة القدح والمدح بغير ذاكرة وبغير هوية ولا انتماء، مجانبين الصواب والإنصاف، ومشمرين بكل حزم وعزم، غايتهم التلبيس والتلفيق، ومرادهم أن يحولوا بين الأجيال وبين معانقة الحق، وأنَّى لهم ذلك فإن أشعة الشمس لا تحجبها عيون المنخل الضيقة، ونور الحق لا يطفئه نفح الحناجر، وقافلة سيد الخلق ماضية بعزم وثبات لا تلتفت إلى نبح أو عواء.
إلى الذين قالوا وبالوكالة أننا أمة ماتت، نبشرهم وقد تكون البشرى في حقهم حسرة وندامة، أننا كأمة قد يعرف النوم إلى جفونها سبيلا، ولكن القلب لا يزال نابضا بالحياة مستبشرا بآثارها، وهي حياة لم ينبئنا بها دستور، ولم نتحسس وجودها رجما بالغيب أو خبطا بِدَجَلٍ ولم نضمن وجودها بورقة تأمين..، بل بشرنا بهذا وببقائها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، سنظل كما قال عليه الصلاة والسلام طائفة ظاهرة على الحق لا يضرُّنا من خالفنا، مخالفة منهج أو مخالفة دبابة وسلاح إلى أن يأتي الله بأمره، وإن ظهورنا هذا وحياتنا هذه باق حتى يبلغ ملكنا ما زوي من الأرض لنبينا، وإننا لنؤمن بذلك إيماننا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والأيام بيننا وبين القوم دولة كما قال رب العزة والجلال: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”.
ندعوهم إلى كلمة سواء بيننا وبينهم
ثم إننا ندعو الذين فتحوا صدورهم وألقوا بالسمع إلى الذين نعتونا بأمة العنف وسفك الدماء, ندعوهم إلى كلمة سواء بيننا وبينهم، ونحن في دعوتنا هذه سنعمل بقصد على تفادي مِحَن الحاضر والمظالم التي أصبح جنسنا معرضا لها، وقد أصبحت جغرافيتنا حقلا خصبا لزراعة أم القنابل وأخواتها عنقودية وفسفورية وميكروبية.. سنتفاداها مع ما فيها من الكفاية وما يمكن أن تحْمله هذه المحن من خلال الصور الحية التي جادت بها وسائل الإعلام، التي اخترقت سكون فضاءنا من حجج دامغة نرد بها افتراء الكاذبين وقذف المدلسين، لنرجع إلى الماضي محاولين النبش في ذاكرة تاريخ الأمس القريب، مجانبين ما راكمته المدنية الحديثة من ايديولوجيات ومفاهيم أنيقة ومصوغات مقبولة للظلم والغطرسة، مما سبب في خلق سَواتر وهمية، وصلت مها ذهنية الأجيال المسحوقة إلى نوع من الأنس واللامبالاة، وهو ما لم يحصل مع جيل الأجداد يوم كان رد الفعل ضد الامبريالية له مرادف واحد ووحيد اسمه المقاومة وكل فعل خارج سياقه فهو غدر وخيانة.
إلى الذين سولت لهم أنفسهم أن ينعتوا أمتهم بالعنف والسادية نفتح نافذة الماضي، وللذكرى فقط، ولنطِلَّ على تلك الأيام العصبية يوم كان الاستعمار الغاشم يقتل يمينا وشمالا يوم كان المسلمون يتساقطون كأوراق الشجر زمن الخريف، فهذه فرسنا ويوم ثار أجدادنا مطالبين بحريتهم فقامت قوات جيشها بحملات “تأديبية” وجهت فيها فوهات البنادق والمدافع إلى نحور المجاهدين، واستعملت فيها الطائرات لإخماد ثورة الإنعتاق، بل وتم شنق المقاومين من غير محاكمة وبلغت النذالة بالمستعمر أن استعمل كل أساليب التعذيب من حرق الأقدام، وتهشيم الأسنان، وكيِّ وطيِّ الجسم، وكسر عظامه بآلات خاصة، وتعريض رؤوس الموحدين لمطارق ثقيلة ساحقة، وهلم جرا من الوسائل الحضارية في مفهوم وقاموس المواجهة عند سيِّدهم الأبيض! بل وقد حفظت كراسة التاريخ ذكر أرقام مهولة من عدد القتلى، والذي كان يصل أحيانا وفي اليوم الواحد إلى أربعين ألف مسلم, فهل يا ترى أكان في مقدور وباء كالطاعون مثلا لو انتشر أن يحصد هذا العدد وبهذه السرعة؟! ثم هل صنع المسلمون مثل هذا في فتوحاتهم المباركة؟!
كلا إن الإنسان في دائرة الإسلام لم يبلغ هذا الانحطاط قط كما انحط سيدهم الأبيض في دورات متعددة من التاريخ، حيث علا فيها جانبه الحيواني المفترس، واستبد طبعه وسيطر، ومع هذا وذاك ووسط هذا الركام من جثت الضحايا الضارب في الطول والعرض لم ينس حفدة نابليون رسالتهم النبيلة فبعد كل مجزرة يَجمعون اليتامى من أبناء وبنات الشهداء ليخطب فيهم القساوسة العسكريون، وليقرعوا آذانهم وبكل رفق وطيبوبة ورحمة بكلمات من قبيل “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرَّة” ثم ليهمسوا أنها رسالة “اليسوع” الخالدة مظلوم في مملكته مملكة الخيال!!
أخ كريم وابن أخ كريم
ذلك كان مجرد غيض من فيض، وهذه نقطة حمراء من بحر دماء لُجِّيٍّ يغشاه موج الظلم، وتعلوه ظلمات التكالب والاستبداد، استبداد الإنسان بأخيه الإنسان..
وإننا نفتح القوس لنسأل العادين هل كان محمد عليه الصلاة والسلام آمرا بظلم أو معتديا على حق من حقوق البشر والحيوان والشجر؟ وإننا من خلال سؤالنا هذا نبغي التحدي والتحدي فقط، لنرفع اللثام عن كل محاولة كيد تبغي النيل من نبينا، وتبني صرح العداوة لرسالته والإزراء على أتباعه، ثم يكفينا بعد هذا التحدي أن نحيل على شهادة صناديد الكفر في شخصه يوم دخل مكة فاتحا ممكنا وقادرا، يوم سأل أهل مكة المدحورين: ما تروا أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وهذا الإمام ابن حزم إمام الأندلس في معرض كلامه عن حقوق الذميين في ظل الإمارة الإسلامية يقول: “إن من واجب المسلم للذميين، الرفق بضعفائهم وسد خلة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم مع القدرة على دفعه، رفقا بهم لا خوفا ولا تعظيما، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ومدافعة من يتعرض لإيذائهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله…”.
فيا لها من سماحةٍ ساعة قوة, ويا له من حلمٍ ساعة قدرة!
ولكنها عظمة الإسلام، ذلك المحسن المجحود الذي لا تقرُّ له المدنية الزائفة بحق الحياة له ولأتباعه، إلا عن عجز أو على خداع، فإذا واتتها الفرصة للإجهاز عليه وعلى أهله لم تضيعها.