لا تبدو “إسرائيل” في الخطاب (الصهيوني المسيحي) أمرا دنيويا أو إنسانيا أو حتى سياسيا، ولكن تبدو “قضاء إلهيا”، ومن ثم تصبح معارضة سياسات إسرائيل خطيئة دينية، ويصير دعمها وتأييدها في سبيل “مرضاة الله”، وتكون تقويتها عسكريا واقتصاديا ومساعدتها ماديا وتسويق منتجاتها وسنداتها وإنشاء صناديق الاستثمار الدولية لمصلحتها، وبناء المستوطنات فوق أرض مغتصبة، وتنظيم الرحلات السياحية إليها، وتوفير وسائل المعلومات والتقنية لها، التزاما دينيا مبنيا علي اعتبارات تاريخية ولاهوتية..
نمت الحركة الصهيونية المسيحية في أمريكا بتسارع جارف وحجم كبير وبموارد ضخمة وصارت تشكل تيارا سياسيا رئيسيا وبخاصة في الحزب الجمهوري ومؤسساته، وتؤدي دورا مؤثرا وحاسما في توفير التأييد الشعبي، والدعم المالي والمعنوي والسياسي والعسكري لإسرائيل على قاعدة وشعار الحركة الأصولية المسيحية “هل تستطيع أن تحب المسيح من غير أن تحب إسرائيل؟”. وصارت توصف في الأوساط اليهودية بأنها أحد أهم أعمدة إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية.
ونتذكر هاهنا ما قاله المتحدث باسم “السفارة المسيحية الدولية”، حينما اعترض أحد الإسرائيليين المشاركين في المؤتمر الصهيوني المسيحي الأول المنعقد في بازل عام 1985 على اقتراح حث إسرائيل لإعلان ضم الضفة الغربية وغزة مقترحا تخفيفه، بسبب أن استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تشير إلي أن ثلث الإسرائيليين يرغبون في مبادلة الأرض بالسلام. أجاب المتحدث باسم هذه المنظمة المسيحية، قـائلا: “لا يهمنا تصويت الإسرائيليين، ما يهمنا هو ما يقوله الله، والله أعطي هذه الأرض لليهود”، عند ذلك مر الاقتراح بالإجماع.
ولقد وعت إسرائيل و”الحركة الصهيونية العالمية” مدى أهمية المنظمات الصهيونية المسيحية لدعم المشروع الصهيوني، ولا سيما أن هذه المنظمات صارت تشكل قوة عددية ومادية ونفوذا كبيرا في المجتمع الأمريكي، مما دفعها إلي التحالف والتنسيق معها، وتيسير حركتها وتلميع قادتها إعلاميا، والسماح لها بالحركة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه واستخدامها لأغراض ممارسة الضغط والتأثير في الرأي العام الأمريكي والعالمي لمصلحة أهداف إسرائيل وسياساتها.
وتدرك إسرائيل أن تحالفها مع هذه القوى المسيحية المتصهينة له فائدة استراتيجية، ووجدت أن مسألة تنصير اليهود في المستقبل، أي عند عودة المسيح الثانية، هي مسألة لاهوتية مؤجلة لا تستدعي الخوض فيها الآن، حتى لا يؤثر ذلك في تحالفات وعلاقات إسرائيل بالمسيحية الأصولية، ويبدو أن كلا الطرفين يتحاشى الخوض في هذه المسألة الخلافية، وكلاهما يملك عقلية براجماتية مدهشة.
فالمنظمات الصهيونية المسيحية درجت في مراحلها المبكرة من هذا القرن على اعتبار أمريكا “أمة مسيحية”، لكنها تراجعت عن شعارها هذا واعتمدت شعارا جديدا يعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي “جمهورية مسيحية يهودية”. وفي الوقت نفسه فإن استقراء لتاريخ إسرائيل والحركة الصهيونية السياسية يبين أن إسرائيل لا تستطيع تحمل مسألة التدقيق في نوعية أصدقائها، أو التردد في قبول الدعم، بل تأخذه من أي مصدر تستطيع الحصول عليه، ولا ترد اليد التي تمتد لدعم سياساتها وأمنها ووجودها، وأثبتت الصهيونية المسيحية أن “صهيونيتها” أشد تطرفا وغلوا من صهيونية قطاع غير قليل من يهود إسرائيل نفسها.
ومن ناحية أخرى، يلاحظ وجود قاسم مشترك ما بين الفكر الصهيوني اليهودي والفكر الصهيوني المسيحي، من حيث اعتبار القوة بمثابة الطريق لتحقيق الغايات السياسية أو اللاهوتية، وكلاهما يتحدث عن الإبادة والغزو والحرب النووية.
كما يتشابه مضمون الخطاب الصهيوني لدى اليهودية والمسيحية المتهودة، من حيث تبرير الاستيطان عقائديا، واستخدام التطهير العرقي لسكان الأرض الأصليين، وامتلاك الشرعية المستمدة أو المبررة من فهم حرفي للتوراة، حيث كان الغزاة عبر التاريخ في الأمريكتين وجنوب أفريقيا وغيرها يتلحفون نموذج المسيحي المتهود المؤمن بمقولة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
وقد شكلت الصهيونية السياسية تجسيدا صارخا لما يمكن تسميته بالإمبريالية الثيوقراطية المسيحية، وبررت الاستيطان واقتلاع السكان وقتلهم بمبررات توراتية. وفي كل الأحوال لا تبدو “إسرائيل” في الخطاب الصهيوني المسيحي أمرا دنيويا أو إنسانيا أو حتى سياسيا، ولكن تبدو “قضاء إلهيا”، ومن ثم تصبح معارضة سياسات إسرائيل خطيئة دينية، ويصير دعمها وتأييدها في سبيل مرضاة الله، وتكون تقويتها عسكريا واقتصاديا ومساعدتها ماديا وتسويق منتجاتها وسنداتها وإنشاء صناديق الاستثمار الدولية لمصلحتها، وبناء المستوطنات فوق أرض مغتصبة، وتنظيم الرحلات السياحية إليها، وتوفير وسائل المعلومات والتقنية لها، التزاما دينيا مبنيا علي اعتبارات تاريخية ولاهوتية.
ماذا يعني ذلك؟
يعني في جانب بارز منه أن هذه الظاهرة إذا ما استمرت وتعمقت فإنها ستترك آثارا كبيرة داخل المجتمع الأمريكي نفسه، وبخاصة تجاه طرح منظومة قيم مختلفة مستندة إلي مبادئ توراتية، كما سيكون لهذه الظاهرة أبعادها على مستوي العلاقات الأمريكية مع العالم الخارجي، وبخاصة في إطار الهيمنة الثقافية والقيمية الأخلاقية، ولعل هذا النوع من الهيمنة قد يدفع باتجاه إدخال الاصطفاء الإلهي في السياسة الدولية. (الصهيونية المسيحية: انحراف سياسي تحت عباءة دينية وإسرائيل هي المستفيد الأوحد؛ د. محمد السعيد إدريس).