1-توطئة
علاقة الإنسان بالكتاب علاقة قديمة، بل إن الحضارة بدأت بالكتابة؛ إذن علاقة الإنسان بها تقدم ورقي وتسامِ، خروج من مرحلة الشفهية إلى الكتابية.
أم الإسلام فهو دين “اقرأ”، وأمته أمة “اقرأ”؛ وبالعلم والقراءة عرف المسلمون طيلة قرون، فدونوا وألفوا وترجموا وارتبطوا بالكتب قبل أن يظهر للمطابع وجود، حتى إن أسفارهم بلغت الضفة الشمالية من المتوسط، فساهمت بشكل كبير في تبلور العبقرية الأوروبية.
واليوم، بعد أن ضعف المسلمون وهان بينهم المثقفون والفقهاء، في جوّ من التطاول والتعالم وكثرة المتكلمين والنقاد والكتاب؛ كاد الكتاب أن يصبح نوعا من الأثاث تزين به الرفوف في المنازل والإدارات، نوعا من الاستهلاك الروتيني بين الفينة والأخرى، دلالة على منزلة اجتماعية أكثر من الثقافة.
لا بد من مناقشة ما بقي من أهمية الكتاب ومكانته، ما يعانيه من مشاكل وأزمات في ظل هذه الظروف؛ وربما تكون هذه المساهمة بمثابة أرضية لمناقشة مشكلة “القراءة والكتاب” في الحالة المغربية.
2- معدلات القراءة بالوطن العربي
أصدرت منظمة “اليونسكو”، مؤخرا، تقريرا يرصد معدلات القراءة بالوطن العربي، مقارنة بمعدلاتها في أوروبا وأمريكا.
وجاء في ذات التقرير أن “الطفل العربي يقرأ سبع دقائق سنويًا، بينما الطفل الأميركي يقرأ ست دقائق يوميًا”.
وتابعت المنظمة التابعة للأمم المتحدة أن “معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي سنويًا هو ربع صفحة فقط”.
وسبق لمؤسسة الفكر العربي أن أكدت، في تقرير لها، أن “متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويًا، فيما لا يتعدى متوسط قراءة المواطن العربي 6 دقائق سنويًا”.
أما بخصوص الإصدارات، فإن إحصائيات جديدة أن “الوطن العربي يصدر كتابين مقابل كل 100 كتاب في أوروبا”، مضيفة أن “العالم العربي ينشر 1650 كتابا سنويًا، في حين تنشر الولايات المتحدة 85 ألف كتاب سنويًا”.
هذا “وقدر عدد المدونات العربية بحوالي 490 ألف مدونة، كما أن إنفاق الدول العربية على البحث العلمي يعتبر هو الأدنى على المستوى العالمي”، حسب ذات الإحصائيات.
3- معدلات القراءة في المغرب
أفاد مؤشر صادر عام 2016 (مؤشر القراءة العربي/ الإمارات) أن المغرب احتل المرتبة الثالثة من حيث “المدة التي يقضيها الأفراد في الدول العربية في القراءة سنويا، وعدد الكتب التي يطالعونها في المدة نفسها”.
وكشف ذات المصدر أن “المغاربة يقضون 57 ساعة سنويا في القراءة”.
وبخصوص عدد الكتب التي يطالعونها، ف”تبلغ حسب ذات المصدر 27 كتابا كمعدل سنوي”.
وبتحليل هذه الإحصائيات نجد أن “57 ساعة في السنة تعادل تخصيص 9 دقائق فقط للقراءة يوميا، بينما قد يبلغ المعدل السنوي في الدول الغربية 27 دقيقة يوميا”.
وعلقت بعض المنابر على معدل القراءة بالمغرب بأنها ضعيفة إذا ما قارناها بمعدلات القراءة في الغرب.
4- وزارة الثقافة تقف على أزمة الكتاب
الجهات الرسمية نفسها أقرت بوجود مشكل في القراءة لدى المغاربة، ما أثر على “ثقافة الكتاب”، وبالتالي “تجارته”.
وفي سياق متصل، قال وزير الشباب والثقافة في المغرب، المهدي بنسعيد، في لقاء إذاعي (2021)، أن “المغاربة ينفقون حوالي 35 درهما (نحو 4 دولارات) للفرد الواحد على القراءة في السنة”.
وأضاف أن “الكتاب في المغرب يعاني كثيرا وثقافة الكتاب تكاد تكون منعدمة”.
وشدد ذات الوزير على أن “الكتاب يحتاج إلى مزيد من الدعم”.
5- “اتحاد الناشرين المغاربة”: الكتاب يمر بمرحلة صعبة
أكد “اتحاد الناشرين المغاربة”، خلال مؤتمره الخامس تحت شعار “صناعة الكتاب.. قلب المشهد الثقافي”، يومي 17 و18 دجنبر من عام 2021، أن “هناك أكثر من سبب يدعو للقلق، فالكتاب يمر بمرحلة صعبة لم يسبق أن عرفها من قبل”.
وأضافت ذات الهيئة أن ذلك “يستوجب تبادل الرأي لتكوين رؤية جماعية، مع وضع خطة والعمل على تنفيذها”.
وتابع ذات المصدر أن “الوضع المتردي للقراءة يرتبط بمصير أجيال تنغمر في وهم التقنية بكل أشكالها السلبية بدون خلفية ثقافية تحصنهم من آفة التلقي السلبي، وأساس هاته الخلفية الثقافية وعمادها هو القراءة والكتاب”.
6- أسباب ضعف القراءة في المغرب
تتعدد أسباب ضعف القراءة في الوطن العربي عموما، وفي المغرب على وجه الخصوص؛ ولعل أبرز هذه الأسباب:
– أزمة عالمية: حيث أن الغرب نفسه يعاني من تراجع معدلات القراءة، بالرغم مما يقال عن “اقتصاد المعرفة”. ويرى متابعون أن القراءة في الغرب استهلاكية لا تثقيفية، باعدت بين الغرب وبين تراثه الثقافي.
– ضعف الموارد المالية: يعاني كثير من المغاربة من ظروف معيشية صعبة لا تكاد تغطي حاجياتهم الأساسية، فما بالك بشراء كتاب أو جريدة. وقد اشتكى بعض القراء والمهتمين بالكتاب هذه السنة، مع اقتراب المعرض الدولي للكتاب، من عدم قدرتهم على الاستفادة من معرض الكتاب لضعف مدخراتهم المالية، بل وانعدامها في ظل ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة.
– مشكل التعليم: فلم يعد التعليم يكرس الاهتمام بالقراءة إلا على وجه الندرة والاستثناء؛ فقد كانت السنون كافية لتخريج نخب من رجال التعليم غير مهتمة بالقراءة، بل أصابتها آفات العصر من إقبال على مواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدة مباريات الدوريات الكروبة الأوروبية.
– وسائل التواصل الحديثة: فقد أفرغت مواقع التواصل الاجتماعي الكتاب من أهميته، بسبب كثرة معلوماتها وفوضى الأفكار والأخبار فيها، وسهولة الولوج إليها. ورغم أنها لا تعوض أهمية ومكامة الكتاب، إلا أن كثيرين اكتفوا بالمعرفة الرائجة على صفحاتها.
– تراجع دور القدوات: وهم المثقفون والفقهاء والمفكرون والعلماء؛ وهؤلاء إما قلة، زادهم انحسار دورهم تراجعا في الفضاء العام؛ وإما تخلوا عن أدوارهم بالإقبال على التجارة أو ما شابه من مجالات عير الثقافة؛ وربما أرادوا بالثقافة نفسها الربح، فيفقدون بذلك قيمتهم ومعها قيمة الثقافة.
– ضعف السياسات الثقافية: وقد أقرت وزارة الثقافة نفسها بتراجع مكانة الكتابة، في حين بقيت دور نشر وجرائد لمصيرها، فإما أعلنت إفلاسها وعدم القدرة على الاستمرار، وإما حولت خطها الثقافي إلى خط ربحي يهدف إلى الربح أساسا، أو استمرت ضعيفة منشوراتها قليلة لا تفي بالمطلوب ثقافيا في شرط تاريخي خاص.
7- حلول مقترحة
من الحلول المقترحة لتجاوز أزمة القراءة بالمغرب، نذكر ما يلي:
– تدخل الدولة: بدعم دور النشر، ومساعدة الكتاب المبتدئين، وتنظيم مسابقات للاستكتاب، وتنظيم أنشطة قرائية لترويج الكتب النوعية، وفتح قنوات الحوار مع المثقفين وخلق علاقات معهم، بل وإدماجهم في مشاريع الدولة وأنشطتها.
– تدخل المثقفين: بالضغط في اتجاه استرجاع مكانة الكتاب، لا أي كتاب، بل كتاب القضية والقيمة، بما يخدم الدولة والمجتمع، ويعطي القدوة للشباب… وكذلك تأسيس هيئات وجمعيات تجمعهم وتنظم نشاطهم وتكثف الجهود في المنحى المطلوب، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا.
– تدخل المجتمع المدني: بتأسيس شبكات للقراءة ودعم الكتاب، وتشجيع مبادرات من قبيل: “كتاب في مقهى” أو “كتاب في الشارع” أو “كتاب هدية”… الخ، وكذا تخصيص جزء من الميزانية لنشر وتسويق كتب في اختصاص الجمعية.
– تدخل المدرسة: بإدماج فقرات القراءة في برامج الحياة المدرسية، وتخصيص مدد زمنية للقراءة داخل الفصل، وإدراج مواد للتحسيس بأهمية القراءة في كافة المقررات الدراسية، بما فيها تلك التي تظهر بعيدة عن مجال الثقافة وهي على العكس من ذلك، كالرياضيات والفيزياء والتقنيات… الخ.
8- قول الفقيه.. القراءة للعمل
أول ما نزل من القرآن قول الله تعالى: “اقرأ بسم ربك الذي خلق”، وقد وردت فيها تفاسير، منها تفسيرها اللغوي “اعمل”، أي ليس بمعنى “فك رموز الكتابة”؛ وقد أجمعت الأمة على المعنى الثاني، ولو أن المعنيبن مرتبطان في الإسلام فـ”العلم للعمل”، و”العلم الذي هو علم معتبر شرعا هو العلم الباعث عل العمل” (كما يقول أبو إسحاق الشاطبي).
ومهما تكنِ المعاني، فالقراءة في الإسلام فرض كفاية في التخصصات، وفرض علين فبما لا يتم المعلوم من الدين بالضرورة إلا به. وسواء أ ارتبط المسلمون بالقراءة مباشرة (بالوجادة) أم بشكل غير مباشر (بالمجالسة)، فالطريقتان معا مرتبطتان ارتباطا وثيقا بالكتاب، وغايتهما في الإسلام العمل.
وفي هذه العلاقة القائمة بين القراءة (العلم) والعمل، يقول فريد الأنصار بخصوص “العلماء ورثة الأنبياء”: “بيد أن (الوراثة) هاهنا تقتضي إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية، لا مجرد العلم الخالي من كل عمل، ومن أي رسالة، فذلك علم مدعى غير موروث، فالعلماء الورثة: هم أهل الرسالة، وحمال البلاغ القرآني”. (فريد الأنصاري، الفطرية: بعثة التجديد المقبلة، ص153).
ويقول في مقطع آخر: “ذلك هو عالم البعثة إذن؛ داعية رباني حكيم، مجدد ومجتهد، منتصب للناس بعلمه وورعه؛ معلما وداعيا، وهاديا ومربيا”. (نفسه، ص154).