لو سترته بردائك.. لكان خيرا لك

 

فإن الشرع المطهر قد رغَّب في الستر ونهى عن تتبع عورات الناس والبحث عن عيوبهم ليفضحهم بها بين الناس؛ صيانة للأعراض، وتطهيرا للمجتمع من الفواحش والآفات، وحفاظا على روابط المودة بين المسلمين. ومما يؤسف له أن بعض الناس يخالف هذا النهج ويعمل على هتك ستر الناس وتتبع عوراتهم، وقد ازداد هذا الأمر في زماننا من خلال كثير من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

‌‌الموت أهون من الافتضاح:

عقد العلامة العزّ بن عبد السّلام رحمه الله فصلا في بعض كتبه وجعل ترجمته: تمنّي الهلاك دون الافتضاح، وذكر قول الله تعالى حكاية عن مريم عليها السّلام: {قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} (مريم/23)، ويؤخذ من هذا عِظَم أمر الفضح عند ذوي النّفوس الأبيّة.

وقال البغوي في تفسير الآية السابقة: تمنت الموت استحياء من الناس وخوف الفضيحة.

وقد رأينا في زماننا من انتحر لشائعة انتشرت عنه أو بسبب نشر صور له أو لها وثبت بعد موتهم أن الأمر لم يكن إلا كذبا وبهتانا.

حكم فضح المسلم:

عدّ العلامة ابن حجر رحمه الله، هتك ستر المسلم أو تتبّع عوراته حتّى يفضحه ويذلّه بها النّاس من الكبائر مستدلّا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: “من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتّى يفضحه بها في بيته”. وعلّل رحمه الله لذلك بقوله: لأنّ كشف العورة، والافتضاح، فيه من الوعيد ما لا يخفى.

إن إفشاء العيوب سبب لفشوّ الفاحشة، وانتشار الفساد والعداوات.

الستر أولى:

ففي قصَّة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف على نفسه بالزِّنى، وسأله أن يقيم عليه الحدَّ ليطهِّره، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم برجمه فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله مع من زنيت، وكذلك المرأة الغامديَّة، عندما أقرَّت على نفسها، لم يسألها النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وفي إحدى روايات حديث ماعز، أنَّه جاء إلى أبي بكر الصِّديق، فقال له: إنَّ الآخر زنى -يريد نفسه- فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا. فقال له أبو بكر: فتُب إلى الله، واسْتَتِر بسِتر الله؛ فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده. فلم تُقْرِره نفسه، حتَّى أتى عمر بن الخطَّاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تُقْرِره نفسه حتَّى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنَّ الآخر زنى. فقال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَّات، كلُّ ذلك يُعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى إذا أكثر عليه، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: “أيشتكي، أم به جِنَّة؟” فقالوا: يا رسول الله، والله إنَّه لصحيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبِكْر أم ثيِّب؟” فقالوا: بل ثيِّب، يا رسول الله، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِم.

قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّ الستر أولى بالمسلم على نفسه -إذا وقَّع حدًّا من الحدود- من الاعتراف به عند السُّلطان، وذلك مع اعتقاد التَّوبة والنَّدم على الذَّنب، وتكون نيَّته ومعتقده ألَّا يعود، فهذا أولى به من الاعتراف، فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده، ويحبُّ التوابين).

وقد ورد في بعض الروايات أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: “يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك لكان خيرًا لك”.

قال أبو الوليد الباجي: (وقوله صلى الله عليه وسلم لـهَزَّال “يا هَزَّال، لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك”. هَزَّال هذا هو: هَزَّال بن رئاب بن زيد بن كليب الأسلمي. ويريد بقوله: “لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك” يريد: ممَّا أظهرته من إظهار أمره، وإخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر به، فكان ستْره بأن يأمره بالتَّوبة، وكتمان خطيئته، وإنَّما ذكر فيه الرِّداء على وجه المبالغة، بمعنى أنَّه لو لم تجد السَّبيل إلى ستره إلَّا بأن تستره بردائك ممَّن يشهد عليه، لكان أفضل ممَّا أتاه، وتسبَّب إلى إقامة الحدِّ عليه، والله أعلم وأحكم).

ومِن هنا كان الترغيب في ستر المسلمين والمسلمات.

فقال عليه الصلاة والسلام: “من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”.

وفي الحديث أيضا: “من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة”.

قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “فإذا كان المرء يؤجر في الستر على غيره، فستره على نفسه كذلك أو أفضل، والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة والندم على ما صنع، فإن ذلك محو للذنب إن شاء الله”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *