هاجر اليهود إلى المغرب على فترات، لعل أبرزها وصولهم إلى المغرب بعد شتاتهم، ثم مع الرومان فيما بعد، وأخيرا بعد طردهم رفقة العرب والمسلمين من الأندلس. هناك أيضا روايات تؤكد قدم الوجود اليهودي في المغرب، حيث لم يشكل هذا الوجود كبير خطر على المغرب والمغاربة. وإنما عاش اليهود مع المغاربة، منذ تأسيس الدولة، كأبناء شعب واحد ودولة واحدة. فكانت لهم حقوق، كما كانت عليهم واجبات، كغيرهم من المغاربة ووفق ما تقتضيه الشريعة وأمر السلطان.
ليس هذا محض ادعاء بل شهد به يهود مغاربة أنفسهم، أمثال إبراهيم السرفاتي الذي نجده يقول: “إن اليهود المغاربة الذين عاشوا هذا التلاحم وأبناؤهم الذين استطاع التنظيم الصهيوني عزلهم ثقافيا وإيديولوجيا عن باقي الأمة، يستطيعون بعد إدراك حقيقة الصهيونية إبراز الحقائق البينة من جديد عن التعايش السالف الذكر والصداقة العميقة”. (إبراهيم السرفاتي، مقال “اليهودية المغربية والصهيونية”).
حسب إبراهيم السرفاتي، فإن اليهود في الوطن العربي والحضارة الإسلامية عاشوا نموذجا متفردا من التعايش والمشاركة والعطاء، لولا تدخل الصهيونية والاستعمار. وفي ذلك يقول: “إن الإسلام مكون من لحم وعظم الديانة اليهودية. إنه تجديد في نطاق واسع لهذه الأخيرة كما أن اللغة العربية قريبة جدا من اللغة العبرية، هكذا استطاعت اليهودية أن تنهل من هذه الحضارة المحيطة بها، مع الحفاظ باستقلالها وبكنهها، بسهولة لم تعهدها في المجتمع اليوناني، الإسكندري أو في العالم العصري… لم تعرف الديانة اليهودية أبدا علاقات بهذا الشكل ولم توجد في تلاحم معطاء إلا في حضارة الإسلام العربي في قرونها الوسطى”. (نفس المرجع)
لقد بلغت درجة ارتباط اليهود المغاربة بالمغرب والعروبة ببعضهم حدّ القول: “إني أرفض بشكل قاطع أن تترجم كتاباتي للغة ميتة هي اللغة العبرية، التي يتم استخدامها في قتل الأبرياء واغتصاب وطنهم فلسطين، إن لغتي هي العربية التي أعتز بها”. (إدمون عمران المالح، حوار، منشورات “الملتقى”، الطبعة الثانية، 2021، ص 135).
وقد أبدع الدكتور إدريس الكنبوري في تصوير هذا التعايش اليهودي المغربي في روايته “سنموت في أورشليم”. لا يهمل الكنبوري الإشارة في روايته إلى بعض العقائد اليهودية التي تفيد العزلة، إلا أن ذلك لم يعفه، وهو يسرد أحداث الملاح، من توظيف كثير من مظاهر التعايش بين اليهود والمغاربة. (إدريس الكنبوري، رواية “سنموت في أورشليم”، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2022)
وذلك ما يعبر عنه أحمد شحلان بقوله: “وإذا كانت القدس في فلسطين، تعتبر عند اليهود عامة رمزا دينيا، فإن يهود المغرب لم يخصوها بذلك وحدها، بل أشركوا معها مدنهم المغربية التي مكنت لهم في العيش، ومكنت لهم في المعرفة، ومكنت لهم في هناء التعبد، ورأى النور فيها سلسلة من الفقهاء والعلماء وكبار الأحبار الذين استنجدت فلسطين بعلمهم، وكوّنوا لهم دور علم في صفد وطبرية وغيرهما من مدن فلسطين” (أحمد شحلان، اليهود المغاربة: من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، دار أبي رقراق، الطبعة الأولى، 2009، ص 14). هكذا إذن خفف التعايش المغربي من انعزالية المعتقد اليهودي فوسع بعض حدوده التاريخية والجغرافية ومكّن اليهود المغاربة من الارتباط ببلاد غير “أرض الميعاد” التي جعلت منها الصهيونية أرض فلسطين.
عموما نقول، تتعدد القرائن على احتواء الحضارة المغربية وإدماجها لليهود، ولعل من أبرزها:
– إيواء المغاربة لهم بمنطق التسامح.
– استقرار أوضاعهم في المغرب بعد الاضطهاد الشديد الذي تعرضوا له في إسبانيا.
– دخولهم في وضعية أهل الذمة، مما ضمن لهم الأمن واستقلاليتهم العقدية والتشريعية.
– التعايش والتسامح والتقارب، حتى بلغ تبادل الهدايا وتقاسم الولاء لعدد معتبر من الأولياء (126 وليا مشتركا بين اليهود والمسلمين، في المغرب).
– تقديمهم خدمات للسلاطين (إدارة الدولة)، أهمها الوساطة في “تدبير علاقات المغرب مع الدول الأوروبية”، مقابل مصالح أعيانهم أنفسهم، ومقابل “حماية الطائفة وجلب بعض الامتيازات لها”. (مصطفى الخلفي، دراسة بعنوان: “يهود المغرب والتعايش اليهودي العربي”، 2004).
– وجود شبه تطابق بين عادات وتقاليد وأعراف (الفلكلور) اليهود والمسلمين، في المغرب. ومنها، ما تعلق ب: “التعامل مع العقم، الحمل، الولادة، حماية المولود الجديد، الزيارات والهدايا بعد ازدياد المولود، الختان، حلاقة الشعر الأولى، الخطبة، مراسم الزواج، الطلاق وتعدد الزوجات، الوقاية من العين، السحر… إلخ”. (إيلي مالكا، العوائد العتيقة اليهودية بالمغرب: من المهد إلى اللحد، منشورات سبو، الطبعة الثالثة، 2013).
ولا يعني كل هذا أن يهود المغرب لا تشوبهم، في انسجامهم مع المغاربة، شائبة. بل إن بعض الظواهر تؤكد العكس، وذلك من قبيل:
– انعزالهم في فتراتهم الأولى.
– دخولهم في نزاعات مع المجتمع المغربي، عامة وفقهاء ورجال حكم.
– قابليتهم للعمالة وخدمة المستعمر والارتباط بالصهيونية.
– تأكيدهم على ارتباطهم بأرض الميعاد في طقوسهم وأذكارهم. (راجع: دراسة الخلفي أعلاه، كتاب “اليهود في تاريخ المغرب: نصوص وقضايا” لإدريس الشنوفي).