1-يوسف زيدان
يوسف زيدان، أبرز مؤسسي “مركز تكوين”؛ لا يخرج فكره عن وجهتين اثنتين: نقد التدين بالوجدان، ونقد المقولات الدينية بالتاريخ. وهو بذلك يحاول تجريد السلطة من أهم وسائل سيطرتها. التوليفة الواضحة بين هذه الأفكار ضمّنها في كتبه “دوامات التدين” و”متاهات الوهم” و”فقه الثورة”. أما الثورة المصرية الناجحة في نظره فهي تلك التي تنجز قطيعة مع “أوهام المصريين” و”المنزع الثيوقراطي في الدولة” و”سيطرة السلطة” كيفما كانت، بما فيها سلطة العسكر.
ورغم هذا الميل لتخليص الدين من شوائب التدين وتأثير السياسة، فإن زيدان سرعان ما يقول باستحالة الفصل بين الدين والسياسة، بل بينهما وبين العنف. فحيثما وجد الدين وجدت السياسة، ووجد معهما العنف. اليهودية والمسيحية والإسلام، كلها أديان تشترك هذا المعنى، وقد نحت هذا المنحى مهما حاول بعض الدارسين البحث عن علمانيات خاصة بها. لو انفصل الدين عن واقعه، لكان الكلام الديني قد انفصل عن مقدماته، ولما كان متكلمو العالم القديم ولاهوتيوه هم أنفسهم متكلمو الدين الجديد. (راجع “اللاهوت العربي وأصول العنف الديني”).
ينزع يوسف زيدان إلى فك الارتباط بين الدين والسياسة، وهو ما لا يتأتى في نظره إلا بقطيعة مع الدين نفسه، أي بما هو يهودية أو مسيحية أو إسلام، إذ كلها لا تخلو من سياسة، والدين الصحيح والمطلوب هو ما كان قبل السياسة، وما تحقق به الوجدان خارجها وبعيدا عنها. إنه دين صوفي يبحث عنه زيدان عند عدد من المتصوفة، غير آبه بضرورة السلطة، أو شرط السياسة، أو اضطرارهما للتوسل بالعنف.
2-إبراهيم عيسى
يروّج إبراهيم عيسى، الإعلامي المصري وأحد مؤسسي “مركز تكوين”، لثقافة تفكيكية تسائل المقدسات الدينية، والإسلامية خاصة. ففي برنامجه “مختلف عليه” لم يترك مسألة دينية إلا وأخضعها لمباضع “أدلوجة حداثوية” بمدخلات معرفية. يستضيف ضيوفا من طينة خاصة، يتحدثون في تاريخ الأديان والقرآن والسنة والحديث وأحكام الشريعة إلخ؛ يستضيفهم بـ”قبعات معرفية”، أو من باب انشغال علمي عند بعضهم، لاصطناع هوة لا تاريخية بين الإنسان العربي ومرجعيته في التدين.
روايات إبراهيم عيسى لا تخرج عن هذا الخط، وهو نفس الخط الذي يقف عليه يوسف زيدان، حيث التركيز على البعد الوجداني في الدين (راجع روايته “مولانا”)، وتسليط الضوء على ضرورات تاريخية لعلاقة الدين بالسياسة (رواية “دم الحسين”)، ونقد سيطرة السلطة وتجاوز طابوهاتها (رواية “دم على نهد”).
لا يراعي إبراهيم عيسى، كغيره من الحداثويين، شرط التاريخ؛ فيستعصي عليه فهم تغير السياسات بتغير الزمن.. وهو نفس الموقف الذي استصحبه عند انتقاده لتبدل موقف السعودية من “وهابية القرن الماضي” إلى “وهابية الألفية الثالثة” (تغريدة على تويتر/2023)، وقد استعصى عليه في وقت مضى التأقلم مع سياسات حسني مبارك في مصر.
إننا نسائل إبراهيم عيسى: ما تكون الحداثة إن لم تكن وعيا سديدا بضرورة السياسة؟! هل يستقيم، من منظور الحداثة ومنطقها، محاكمة الواقع السياسي والثقافي بحقائق الوجدان؟! أيصح الموقف من الدين مرفوقا أو مسبوقا بموقف زائف في السياسة؟! الحداثة وعي نظري قبل أن تكون مقولات، التمسك بمقولات مثالية لا يقل رجعية عن مثاليات أخرى ربما ينتقدها إبراهيم عيسى وأصحابه!
3-إسلام بحيري
يفكر إسلام بحيري، “الباحث” المصري المحكوم سابقا بتهمة ازدراء الأديان، داخل ثلاث دوائر فكرية، تلك هي غاياته التي أصبحت تمارس عليه نوعا من الوهم في مجتمع لا يقبلها؛ هذه الدوائر هي: الاكتفاء بالقرآن حجة، تجديد هندسة القرآن، قابلية السنة للنقاش.
صحيح أن إسلام بحيري ينطلق من مقولة “القرآن مرجعنا الأساسي في الإسلام” (حوار له في برنامج “رأي عام”/ قناة “TEN”)، إلا أنه سرعان ما يدعو إلى تجديد فهمه بتوجيه نقد إيديولوجي شعوري/ نفساني، لا علمي في أغلب الأحيان، لعلومه (“الناسخ والمنسوخ” مثلا، يعتبره بحيري قد “ألغى آيات التسامح في القرآن الكريم، وأطلق آيات الجهاد للزمن”)، وكذا لبعض مضامينه في القصص أو أشراط الساعة أو غيرها في محاولة منه للتشكيك في التفاسير المتواترة، ولنقل في الرواية القرآنية، دون بحث منه عن تفسير أو إيجاد تاريخي لما ورد في القرآن الكريم. إنه بذلك يعيد إنتاج أطروحة محمد أحمد خلف الله في كتابه “الفن القصصي في القرآن الكريم”.
أما علائق السنة بالقرآن، مفسرة أو شارحة أو مخصصة أو مقيدة أو مبينة أو مستقلة بالتشريع؛ فلا يقف عندها بحيري ولا يرى لها حجية كالتي للقرآن، وذلك لأنهما جمعا في نظره بطريقتين مختلفتين “الفرق بينهما كالفرق بين السماوات والأرض”، على حد تعبيره في الحوار الذي أشرنا إليه سابقا. ولا ندري هل يجيز هذا الفرق الشاسع الذي يتحدث عنه بحيري اصطناع تناقض بين القرآن والسنة؟ كما لا ندري كيف أجاز له “منطقه العلمي” التمييز بين عمليتين لجمع نصوص التراث وتوثيقها في ظل اختلافات متعلقة بزمن الجمع ونوعه، ما اقتضى اختلاف المنهجين (العملية التي جمع بها عثمان رضي الله عنه المصحف تختلف عن العملية التي جمع بها البخاري الحديث/ فما جمع من الصحائف والمحفوظ ليس كالذي جمع من أفواه الرجال، ولكل جمع منهج ودرجة صحة)؟
يدعو بحيري أيضا إلى تنقيح السنة بالمتن وليس السند، وهذه عملية قديمة مارسها المحدثون أنفسهم. وإذا كان بحيري سيمارسها كما فعل مع حديث “ناقصات عقل دين”، فإنه سيفسد فيها أكثر مما سيصلح. فإذا كان قد فهم من الحديث عنصرية جنسية وتمييزا ضد النساء، ما يتعارض مع غايات القرآن في نظره، فقد أخطأ الفهم وأخطأ النظر وأخطأ الحكم على متن الحديث، وأخطأ إيجاد أصل له في القرآن. عاطفية المرأة وخصوصيتها لا تنفي عنها إنسانية، ولا تعني عنصرية في الموقف منها، فعن أي تنقيح بالمتن يتحدث بحيري في هذا الحديث؟! هذا نموذج ضمن نماذج، تثبت أن التنقيح بالمتن عملية معرفية شاقة وتطلب منهجا مركبا، وليست عملية نفسانية شعورية إيديولوجية يخضع بها الناقد حديث النبي للأهواء (ومن الأهواء ما كان بأقنعة ومداخل معرفية تثير الالتباس)، ودون اعتبار الطرق النقل على أهميتها!
4-فاطمة ناعوت
عُرِفت فاطمة ناعوت، في مختلف أعمالها الشعرية والروائية، بالدعوة إلى العلمانية والليبرالية، أما توجهها النسوي فغير خافٍ. تصريحها بأدلوجتها الليبرالية يزيل كل لبس، رغم إشارتها بين الفينة والأخرى إلى السياق الذي ظهرت فيه الليبرالية الغربية. هذا السياق مكتنز اجتماعيا، تفسيره أعمق مما تذكره ناعوت، حيث “الصراع بين دين الكنيسة والعلمانية”. لا تستحضر تطور الإنتاج كعامل جوهري في تاريخ الليبرالية والعلمانية في الغربي، فتغترب إيديولوجيا في صراع فوقي، ومن ثم في تحديد مثالي للمفاهيم.
وهو ما يتجلى في تعريف ناعوت للعلمانية بأنها “فصل الحكومة والسلطات السيادية السياسية عن سلطان رجال الدين، أي دين. تعني عدم إجبار أي إنسان على اعتناق معتقد بعينه، وكفل حرية اعتقاده دون الانتقاص من حقوقه كمواطن. تعني أن تقف الدولةُ على مسافة متساوية من الأديان كافة، وعدم تمييز المواطنين على أسس عَقَدية أو دينية أو طائفية. تعني اعتراف الدولة بأن للمواطنين جميعهم حقوقًا دستورية متساوية وعليهم واجبات دستورية متساوية، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. تعني عدم الخضوع لابتزاز المؤسسات الدينية، لأن المواطنة عَقدٌ بين المواطن ووطنه، أما العقيدة فهي شأنٌ خاص بين الإنسان وربّه، لا يصحُّ أن يتدخل فيها آخر”. (فاطمة ناعوت، مقال “ما العلمانية”، المصري اليوم).
فإذا كانت العلمانية تعريفا مثاليا غير خاضع لشروط اكتشاف مفهومها وتطوره؛ فلماذا ترجعها ناعوت إلى سياقها الأول؟! أليس ذلك إرجاعا غير واعٍ؟! لو كان واعيا لما أنتج تعريفا مثاليا، ولما استصحب لشروط تختلف عن الشرط الأوروبي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. وإذا كانت الكنيسة هي النقيض الديني الذي على أساسه ابتكرت الفئات الأوروبية الصاعدة ادلوجتها العلمانية؛ إذا كان الأمر كذلك، فبأي منطق ينزع عدد من “علمانيينا” إلى تشبيهها بعمل المساجد وفتاوي الفقهاء؟!
5-فراس سواح
لفراس سواح، الباحث في تاريخ الأديان، مشروع علمي يشتغل عليه. من خلاله يقارن فيما بين الأديان من جهة، وبينها وبين الأساطير من جهة أخرى. مقارناته تكون نصية فوقية تارة، وباحثة في أحداث التاريخ تارة أخرى. يشتغل سواح أيضا على كشف علاقة الإنسان بالدين وتطورها عبر التاريخ (“دين الإنسان”/ “الإنسان والشيطان”).
يحسب لفراس سواح أنه يفصل ممارسته العلمية -أو هكذا يقول- عن الإيمان، ما يعبر عنه بقوله “العلم محله العقل والإيمان محله القلب”. إلا أنه بإثارة هذا النوع من النقاش في مجتمعات مؤمنة وترى في دينها الحقيقة التاريخية، بل ما زالت في حاجة إلى الدين بهذا المضمون دون تمييز؛ هذا النوع من النقاش سرعان ما يتحول إلى نقاش لا تاريخي وإن كان تاريخي المنحى في البحث والتنقيب.
قضية أخرى يجب الانتباه إليها في تصريحات سواح وأعماله، وهي أن عدم الإيجاد العلمي لا يعني عدمه التاريخي. وفراغ العلم قد تملأه التأويلات إلى حين، وهو ما اعتاد المسلمون ملأه بتاريخ من الدين، أي من نصهم الديني. أما التمييز الذي يراه سواح سبيلا ومسلكا فليس منزلة للجميع ولا يستطيعه الجميع، بل ليس هو عين الحقيقة نهاية لأن المسألة لم تحسم في التاريخ بعد. وقول “الباحث الإسرائيلي” عن نبي لم يجده: “اسمح لي أيها النبي -كذا-فإنني لم أجدك في التاريخ”، كما يحب سواح الاستشهاد بها بين فينة وأخرى، فلا تعني لا تاريخية الأنبياء، ولا تعني غيابهم واصطناعهم في التاريخ؛ وإنما تنم عن قصورنا في التأريخ. وجودها في النصوص الدينية ليس بغير معنى، وهذا المعنى يطلب الإيجاد والكشف، وتلك مهمة البحث التاريخي.