كانوا السلف يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم
بلوغ رمضان نعمة عظيمة من نعم الله جل وعلا على عباده، لما فيه من الخيرات ولما تحل فيه من البركات.
قال بعضهم:
جاء شهر الصيام بالبركات *** فأكرم به من زائر هو آت
فبلوغ شهر رمضان وصيامه وقيامه نعمة جليلة على من أقدره الله عليه، فمن رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.
قال بعضهم:
أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولا وفعلا *** وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادما يوم الحصاد
وعليه فيجب مقابلة هذه النعمة بالشكر، فإن النعم تقر بالشكر، وتفر بالكفران، قال تعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” ابراهيم.
قال العلامة السعدي رحمه الله عند هذه الآية: “والشكر يكون بالقلب إقرارا وبالنعم اعترافا، وباللسان ذكرا وثناء، وبالجوارح طاعة لله وانقيادا لأمره، واجتنابا لنهيه، فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة، وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: “(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ)” تيسير الكريم الرحمن.
لذلك كان أول ما ينبغي أن يفكر فيه المرء، كيف يشكر الله تعالى على أن أوصله إلى هذا الشهر الكريم، وأنه مدَّ في عمره إلى هذا الموسم العظيم، فإن المرء يتمنى إذا مات أن يرجع إلى الدنيا يومًا واحدًا يتوب فيه إلى الله تعالى ويستغفره ويعمل صالحا كما قال تعالى: “حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ” المؤمنون.
قال السعدي رحمه الله عند هذه الآية: “يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك يقول: “لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ” من العمل، وفرطت في جنب الله” تيسير الكريم الرحمن.
ومن ثم فليعلم أن تحقق الشكر لا يقتصر على الثناء باللسان والاعتقاد بالجنان فحسب، بل لا بد فيه من عمل الجوارح والأركان.
قال تعالى: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً”.
قال الشوكاني رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: “أي: وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما آتاكم، أو اعملوا عملا شكرا على أنه صفة مصدر محذوف، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال: أي شاكرين أو مفعول به. وسميت الطاعة شكرا لأنها من جملة أنواعه أو منصوب على المصدرية بفعل مقدر من جنسه: أي اشكروا شكرا” فتح القدير.
وقال أحد السلف: “الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسموات” الجامع لأحكام القرآن.
قال الناظم:
شكروا الذي أولى الخلائق فضله *** بالقلب والأقوال والأركان.
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تشققت قدماه من طول القيام فقالت له عائشة رضي الله عنها: “قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر”، قال: ” أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ” رواه البخاري.
فكان عليه الصلاة والسلام يشكر الله تعالى بطول القيام، يشكر الله تعالى بالإقبال عليه، وبمناجاته وتلاوة آياته والتدبر فيها بالخشوع له والخضوع، وبإتعاب هذا الجسد الفاني لله تعالى.
فهذا الجسد الذي تخاف عليه اليوم أيها العبد سوف يفنى، وسيصير إلى التراب غدًا، ولا ينفعك عندها إلا تلك الطاعات التي فعلتها وتلك القربات التي قدمتها.
لذلك كان شكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحوال أن يقوم لله تعالى حتى تتشقق قدماه، وحتى تتورم رجلاه، وحتى تنتفخ من طول القيام لربه الإله.
قال تعالى: “بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ”.
فالمطلوب -إذن- لشكر الله تعالى ببلوغ هذا الشهر الكريم الإكثار من التعبد فيه ليلا ونهارا، صيامًا وقيامًا وذكرًا وتعبدًا وقراءة للقرآن وبذلاً للمال وإقبالاً على النفس محاسبة لها وتوبة من ذنوبها، وكذلك إقبالا على النفس تصحيحًا لنياتها وتصحيحًا لأعمالها، وإقبالا عليها خروجًا من آفاتها، من حقدها وغلها وحسدها وطول أملها في الدنيا وحرصها عليها، وركونها إلى الشهوات والغفلة ونسيان الآخرة.
قال المعلى بن الفضل رحمه الله: “كانوا (أي: السلف) يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم”.
وقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: “كان من دعائهم (أي: السلف): اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا”.