مر معنا تقرير أن التأويل -عموما- من موانع إلحاق الكفر بالمعين المسلم المتلبس بما هو كفر شرعا، وهو أمر متفق عليه بين أهل العلم في الجملة.
وقد بينا الدلائل المعتبرة لذلك والمعتمدة.
إلا أن هذا لا يعني أن كل من ادّعى التأويل يعذر به مطلقا، وعليه فرق أهل العلم والدين بين أهل التأويل السائغ وغيرهم، وفي هذا يقول العلامة السعدي رحمه الله: “والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام، لأنه وجد بعض التفاصيل التي كفّر أهل العلم فيها من اتصف بها، وثم أُخر من جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوغ وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصلوا فيها القول، لكثرة التأويلات الواقعة فيها” الإرشاد في معرفة الأحكام 209.
فلا عذر بالتأويل في مخالفة أصل الدين (الشهادة)، و(قبول الشريعة)، لأن هذا الأصل لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه.
يقول ابن حزم رحمه الله: “وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي أو سائر الملل، أو الباطنية القائلين بإلهية إنسان من الناس أو نبوة أحد من الناس بعد رسول الله صلى الهن عليه وسلم فلا يعذرون بتأويل أصلا بل هم كفار مشركون على كل حال” الدرة لابن حزم 441.
وكذا لا عذر بالتأويل فيما خالف المعلوم من الدين بالضرورة (1).
قال ابن الوزير رحمه الله: “لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم ضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل، فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار(2)”. إيثار الحق على الخلق 415.
إذا فالتأويل الذي يعذر به في باب التكفير والإكفار: التأويل السائغ في الجملة (3) وإن كان باطلا في نفسه فتنبه.
ضوابط التأويل السائغ
للتأويل السائغ ضوابط، جماعها ضابطان:
الأول: أن يكون سائغا في لسان العرب(4)، ومعرفة ذلك يرجع فيه إلى القواعد العربية، وفي ذلك أصول متبعة وضوابط معروفة، فلا يصار إلى تقعيد جديد، فيبتدع شيء من الضوابط يأتي به الإنسان تسويغا لفلتة لسان أو لرأي وقع في الجنان.
الثاني: هو أن يكون له وجه في العلم، و(أل) هنا عهدية، أي العلم المعهود عن العلماء في تقرير مسائل العلم، لا أن المراد أن يُحدث الإنسان لرأي أو النص الشرعي مطلقا فهوما محدثة، ثم يبني عليها أنه علم!
وقد قرر هذا أهل العلم فيما نقله عنهم الحافظ ابن حجر حيث قال: “قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس يأثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم” الفتح 12/304.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام: أنه لا يلزم من كون التأويل سائغا في اللغة أن صاحبه يعذر به مطلقا، إذ ذلك مشروط بإرادة الحق، لأن بعض رؤوس أهل البدع المغلظة لشدة مكرهم وخبثهم تأوّلوا بعض النصوص بتأويلات -قد يكون لها وجه في اللغة- بغرض صرف الناس عن معانيها الصحيحة كيدا لهذا الدين، فهؤلاء إذا تحقق لنا منهم هذا القصد فلا عذر لهم بهذا التأويل وإن كان سائغا في اللغة جملة.
وعليه فمن التقاسيم الجيدة في هذا الباب ما ذكره الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرح لمعة الاعتقاد 19 حيث قال: “وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون صادرا عن اجتهاد (5) وحسن نية بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله فهذا معفو عنه، لأن هذا منتهى وسعه، وقد قال الله تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا”.
الثاني: أن يكون صادرا عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمن عيبا في حق الله فيكون كفرا (6).
الثالث: أن يكون صادرا عن هوى وتعصب، وليس له وجه في اللغة العربية فهذا كفر، لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له”. انظر ضوابط الرمي بالبدعة لمحمد بن سعيد رسلان 169.
ــــــــــــــــــــــ
1- على تفصيل واستثناء يخصه قد مر معنا إيضاحه وبيانه.
2- وفي مثل هذا ونحوه يقول القاضي عياض رحمه الله نقلا عن العلماء: “ادّعاء التأويل في لفظ صُراح لا يقبل” الشفا 2/217، وانظر الصارم المسلول لابن تيمية رحمه الله 526.
3- والذي قال فيه ابن حزم رحمه الله: “ومن بلغه الأمر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من طريق ثابتة وهو مسلم فتأول في خلافه إياه أو رد ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ فهو مأجور معذور لقصده إلى الحق وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند فلا تأويل بعد قيام الحجة” الدرة فيما يجب اعتقاده 414.
4- ولذلك لم يعتبر أهل العلم تأويلات الباطنية لظواهر النصوص كتأويلهم (الصيام) بالإمساك عن كشف السر، و(الكعبة) و(الصفا) بالنبي، و(المروة) بعلي..
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : “ولابد من التنبيه لقاعدة أخرى، وهي أن المخالف قد يخالف نصا متواترا ويزعم أنه مؤول، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلا عن اللسان، لا عن قرب ولا عن بعد، فذلك كفر، وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه مؤول.
مثاله ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم ويخلقه لغيره، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، فأما أن يكون في نفسه واحدا أو موجودا وعالما بمعنى اتصافه به فلا، وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلا..، فأمثلة هذه المقالات تكذيبات، وإن عبر عنها بالتأويلات” بغية المرتاد 346.
5- إما المراد بذلك كل من بذل جهدا في الوصول إلى الحق وعليه فلا تعليق، أما إذا كان المراد بذلك أهل الاجتهاد الذين يذكرهم علماء الأصول فنقول: “يلحق بهم المقلدة لهم التقليد الصحيح”.
قال ابن تيمية رحمه الله: “لكن ليس كل مخطئ يكفر لا سيما إذا قاله متأولا باجتهاد أو تقليد” الرد على البكري 328.
6- ومثله من أراد بذلك الكيد للدين كما مر قريبا.