لم يعد خافيا على متتبع أن الحركة النسوية العلمانية المتطرفة، المؤثرة في مراكز القرار؛ لا تتحرك من منطلق الإصلاح القائم على أسس سليمة ورؤى منطقية، بقدر ما تناضل من أجل الانتقام للمرأة التي اضطهدت واحتقرت عند جميع الأمم والشعوب بما فيها الأمة الإسلامية، هذه الأمة التي ما تجرأ الكثير ممن يتكلم في أمر العامة فيها إلا بعد أن غرقت في أوحال الجهل والظلم بعد أن زهدت في كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وإذا كنا لا نستغرب ذلك الواقع الذي ابتليت به الأمة، لعلمنا بأنه نتيجة طبيعية للانحراف عن توجيهات الوحي التي ما اكتسبنا العز إلا باتباعها ولا حلقنا في علياء المجد إلا بالتمسك بها.
.. إذا كان هذا من المسلمات عندنا، فإن العجب لا ينقضي من النسوية العربية العلمانية التي لم تر في الشريعة ثروة كافية لوضع مشروع إصلاحي لحال المرأة، يعيد لها الاعتبار ويرفع عنها الحيف، كما يفسر ذلك تهميشها الكامل لأحكام الشريعة وآدابها في دعوتها وأدبياتها.
وهذا يؤكد تأثرها بالطرح المتقدم، وأن قصدها يغلب عليه دافع الانتقام والمنافسة غير الشريفة.
وإلا فإن الشريعة ما كانت لتقصر في إصلاح أي جانب من جوانب الحياة، ولكنها تعدل ولا تحيف، وتنصف ولا تميل، وهو ما لا يلبي رغبة النسوية المتطرفة التي أبت إلا أن تنتج مجتمعات يداس فيها الرجال بنعال النساء، ويكون فيها انتقام المرأة على حد قول الشاعر الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أجل؛ ذلك حين تطغى النسوية العمياء، فترقى جبل الكبر وتتقمح في خطابها الحديدي الذي صار يرهب الساسة والعلماء، الذين لا ترضى منهم إلا بالتسليم، ولا تقبل منهم غير الإذعان.
كانت هذه الحركة في أول الأمر تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل في أجرة العمل الواحد، ثم طالبت بالمساواة الاجتماعية المطلقة، ثم طالبت بالمساواة السياسية، ثم طالبت بالمساواة في كل الأحكام والقوانين، ثم طالبت بالمساواة العضوية واعتبار الاختلاف البيولوجي بين الذكر والأنثى راجعا إلى منطق التطور، وليس من أصل الخلقة، وبنوا على ذلك أن لكل إنسانٍ الحقَّ في اختيار نوعه أو رفضه، ومعنى ذلك: لكل إنسان الحق أن يتحول جنسيا! وأن يختار زوجه، ولو كان من جنسه!
وها هو الآن هذا التوجه المدمر للبشرية يصل إلى ما سماه التمييز الإيجابي؛ ومفاده أنه لا بأس بترك المساواة إذا كان ذلك تمييزا لصالح المرأة.
وهنا تضرب هذه الحركة كل ما ادعته من ضرورة المساواة المطلقة، لتقول بعد ذلك لا بأس بتفضيل المرأة على الرجل لأسباب وهمية وتعليلات هشة تخفي في طياتها السبب الحقيقي؛ ألا وهو حب الاستعلاء والرغبة في الانتقام.
وقد جاء استعمال مصطلح (التمييز الإيجابي) في (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، التي صدرت عام 1976 في مؤتمر المرأة بـ”كوبنهاجن”.
وأريدَ به آنذاك: (تسريع وتيرة تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة).
ثم تطور مفهومه إلى ما هو أليق بلفظه؛ ومن أبرز مظاهر ذلك في المجال السياسي: ألعوبة (الكوطا) التي تدعو إلى التزام البرلمانات باعتماد نسبة معينة من النساء كبرلمانيات ممثلات للشعب وإن لم يتم انتخابهن من طرفه!!
وجهد أصحاب هذه الدعوة في ليِّ وجمع أطراف هذا الأخطبوط الديكتاتوري ليدخل لعبة الديمقراطية المزعومة!
وفي هذا السياق نسمع كلاما من قبيل قول علي الوكيلي وهو يتحدث عن كوطا المرأة في الانتخابات المغربية: (عدم احترامنا للديمقراطية اضطرتنا إليه عقلية الرجل التي ترسخت فيها دونية المرأة)!
ويمضي قائلا: “.. الرجل المغربي ليس متحضرا، لنتركه يطور موقفه من المرأة بعد محاربة الأمية والرقي بالحس الحضاري عنده ووصول الواقع الاجتماعي إلى مستوى إقناعه بذلك، هذا يتطلب عشرات السنوات وربما أكثر، ومن هنا جاءت فكرة تعويده على قبول نسبة معينة من النساء في البرلمان ولو بالقوة، بما أن نموه الحضاري بطيء جدا، ومع الوقت، سيلاحظ أن النساء أقل من الرجال نوما وغيابا في الغرفتين، وأكثر حركة ونشاطا منهم، مما قد يجعله يغير موقفه منهن بعد زمن معين …”!!!
وهنا نشاهد الديكتاتورية في أظهر تجلياتها، ديكتاتورية الاحتقار والازدراء والاستعلاء وفرض الرأي بالقوة؛ وهذا يؤكد أن معاني الديمقراطية والمساواة والإنصاف والنزاهة … ألعوبة في يد بعض المتنفذين، يطبقونها متى شاءوا ويتركونها متى شاءوا!
وأنها سلاح يشهر في وجوه الضعفاء والمصلحين، الذين يُرمَون باللاديمقراطية واللامساواة ما داموا يدعون إلى ما لا يوافق رؤى المتنفذين ..
وقد تباكت نزهة الصقلي (وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن) في صفحات الجريدة الأولى (ع 148) على تراجع الحكومة عما وعدت به من إقرار كوطا للنساء مع أن هذه الكوطا خلاف القانون والدستور، وفي الاستجواب نفسه ترد رأي الدكتور المغراوي قائلة: “ومرجعي في ذلك هو قانون الأسرة”.
فتحتج بالقانون متى شاءت، وتهمله وتهمش العمل به متى شاءت.
وإذا أضفنا إلى هذا الموقف، قضية فوزية عسولي التي جاهرت بالدعوة لتغيير قانون الإرث، ولم تتعرض لأي مساءلة أو إنكار على المستوى القانوني؛ ظهر لنا حجم النفوذ الذي يتمتع به اللوبي النسوي ذي التوجهات العلمانية، والذي يسعى لفرض رؤيته المستوردة متجاوزا كل معايير العدل والنزاهة، أو على الأقل الديمقراطية والمساواة ..
إننا لا ننكر الدعوة إلى إصلاح الأحوال السيئة لنسائنا، بل هذا من الواجبات الشرعية قبل أن يكون عملا إنسانيا أو إصلاحا وطنيا؛ ولكننا ننكر هذا التسلط الخطير على إرادة الأمة، وفرض تصور أحادي مستورد للإصلاح المذكور؛ هو إلى التبعية للغير أقرب منه لتلبية حاجاتنا وتحصيل مصالحنا، وهو إلى الانتقام وتصفية الحسابات أقرب منه إلى الإصلاح ورفع الظلم عن المرأة.
ويؤكد كون هذا المفهوم يراد به الانتقام للمرأة؛ قول د. رياض الزغل: “أما مفهوم التمييز الإيجابي ” discrimination positive-affirmative action ” فقد أفرزته الحركات النسوية والأدبيات التي صحبتها. وعلى أساس مبدأ التمييز الإيجابي تبتكر سياسات وتوضع آليات بهدف سد الفجوة بين فئة اجتماعية وأخرى من حيث التمتع بالحرية والحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن بعض الفئات الاجتماعية تضررت بسبب عادات وتقاليد وقيم موروثة وأسكنت منزلة دونية داخل المجتمع…”اهـ
ولعل نظرية التمييز الإيجابي تفسر مطلب عسولي المتقدم؛ فإننا إذا كنا في زمن التمييز الإيجابي فكيف نقر التمييز (السلبي) ضد المرأة في الإرث؟!
أليس من التناقض المطالبة بـ
(التمييز الإيجابي)، ولَمّا يصل (نضال المساواة) إلى غايته؟؟
أجل؛ وإن كانت المرأة قد نجحت في الوقوف إلى جانب شرطي المرور، وقد حملت الصفة ذاتها، ولبست اللباس نفسه، ومارست العمل عينه …، رغم هذا لا يزال في الإرث عمل بآية {للذكر مثل حظ الأنثيين}
فلنجهز على هذا التمييز السلبي، قبل أن نطالب بالتمييز الإيجابي..