يختلط على كثير من الناس أمر البدع والمعاصي أو المناهي من وجوه عدة، فيفضلون أن يقع المسلم في بدعة على أن يواقع معصية.
وثمة مقدمة قبل البداءة برد شبهتهم، ونقض تمويههم، فنقول:
كل بدعة معصية منهي عنها، كما صرحت بذلك الأحاديث: “وكل بدعة ضلالة”، و”من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”.. إلى آخره.
ولكن، هل كل منهي عنه أو معصية بدعة؟
فالجواب الواضح الصريح: لا، ليس كل نهي أو معصية بدعة، فالمعاصي والمناهي تتنوع وتختلف:
فالزاني عاص، لكنه لا يسمى مبتدعا.
والسكير عاص، لكنه لا يوصف بالابتداع.
فكل بدعة معصية، وليس كل معصية بدعة.
روى ابن الجعد في مسنده رقم 1885 عن سفيان الثوري قوله: “البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها”.
..قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (10/9): “ومعنى قوله البدعة لا يتاب منها”: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زُين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب، ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا، وهو سيء في نفس الأمر، فإنه لا يتوب.
لكن التوبة منه ممكنة واقعة، بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال.. وهكذا، بأن يتبع من الحق ما علمه”.
وقال رحمه الله تعالى: “إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع: إذ أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه من سرقة أو زنى أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل. وأهل البدع ذنوبهم: ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين” مجموع الفتاوي 20/103.
هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى “أنك لو استعرضت أنواعا من البدع لرأيتها في جملتها سوسا ينخر في عظام الأمة، هذه في دينها، وهذه في أخلاقها، وهذه في مالها وثروتها، وهذه في منزلتها العلمية ومكانتها من الأمم.
ولا أذهب بك بعيدا، فهذه بدع الموالد التي تقام لمشاهير الأولياء، لا يجهل أحد من الناس أنها مظهر من مظاهر الفسق، وسوق نافقة للتجارة في الأعراض، وانتهاك لحرمات الدين، وتأييد للشرك، وفصم لعروة التوحيد، وهدم لما يقوم به المصلحون من عمل نافع مفيد..” أصول في البدع والسنن ص 10-11.
وخلاصة القول “أن البدعة أعظم من المعصية، لأنها تمس أصل الدين، وأما المعصية فتتعلق بشخص العاصي، فقد يرجع عنها لعلمه بأنها مسخطة للرحمن، ومرضية للشيطان.
وأما المبتدع فلا يرجع غالبا لظنه القاضي بحسن البدعة، واعتقاده بأنها مرضية لله ومسخطة للمُلْهِي وهي تنتقل إلى غيره، فإذا تطهر منها هو، تنجس بها غيره”. إشراقة الشرعة ص:92، علم أصول البدع ص: 217-224.
ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ذلك أن “فتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة”، وهذا كله إنما يَطّرِد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته.
والمخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه، وكذلك: ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس.
والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام، واعتبار المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآلات الأمور؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم شأنها ينبغي ألا يفضي -في الحال أو المآل- إلى الاستخفاف بالمعاصي والتحقير من شأنها، كما ينبغي أيضًا ألا يفضي التنبيه إلى خطورة المعاصي والمبالغة في تعظيم شأنها -في الحال أو المآل- إلى الاستخفاف بالبدع والتحقير من شأنها. (قواعد معرفة البدع).