من المعلوم أن المرء إذا مات انتهى تكليفه وانقطع عمله، وخُتم كتابه، فلم يعد يستطيع نفع نفسه فضلاً عن غيره، وصار هو المحتاج لدعوة صالحة تلحقه من بعده، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” مسلم.
وعموم بني آدم يدخل فيهم الأولياء والصالحون فهم أيضا محتاجون للدعاء، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}الحشر.
وقد غلت طوائف في الأولياء والصالحين واتخذوا قبورهم بعد موتهم مساجد، ودعوهم واستغاثوا بهم، وخصصوا لهم المواسم والأعياد، رغم أن نصوص الكتاب والسنة جاءت بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم). صحيح أبي داود في 1780 وغيره.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه أحمد وانظر مشكاة المصابيح 750. هذا في قبره الشريف وفي كل قبر.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، وفي زيادة صحيحة لأبي داود: (أو أن يكتب عليه).
على ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، ولم يكن حكام وعلماء المغرب استثناء من هذه السلسلة الذهبية بل وقفوا بالمرصاد للغلو في تعظيم الأولياء والصالحين.
فمن منا لا يتذكر الخطبة الشهيرة التي ألقاها السلطان المولى سليمان في ردع رعيته عن بدع المواسم التي تجعل للصالحين، فقال رحمه الله: “وها نحن عباد الله أرشدناكم وأنذرناكم وحذرناكم، فمن ذهب بعد لهذه المواسم، أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسه، وجر الوبال عليه وعلى أبناء جنسه، وتله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم .”
قال العلامة المكي الناصري رحمه الله في كتابه إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة: “فمنهم الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس واتخاذ الدرابيز والكسا المذهبة وتعليق الستور والأثاث النفيسة، وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى، وسوق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدارنها، والتمسح بها، وحمل ترابها تبركا، والسجود لها وتقبيلها، واستلام أركانها والطواف حولها، والنذر لأهلها، وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج (كما يزعمون)، فيقولون عند زيارتهم: “قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان إلا ما قضيت لي حاجتي”، جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم.
مع أن الميت قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف لمن استغاث به أو سأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. واستعانة ذلك الميت وسؤاله لم يجعلهما سبحانه سببا لإذنه، وإنما السبب في إذنه كمال التوحيد، فجاء هذا بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، على أن الميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة”.
وقال محمد بن اليمني الناصري (1391 هـ) في كتابه ضرب نطاق الحصار، ص:3-4 متحدثا عن الصحابة رضي الله عنهم: “ما صح عنهم قط أنهم زاروا نبيا ولا وليا ولا صحابيا من أكابر الصحابة على هذه الكيفية التي يرتكبها عامتنا، وكثير من خاصتنا اليوم؛ والحال أنهم أهدى منا بشهادة الله ورسوله.
ولا ثبت في تاريخ حياتهم أنهم أقاموا لنبي ولا لولي ولا لصحابي موسما، ولا بنوا عليه قبة ولا معبدا، ولا سجدوا لقبر من قبورهم، ولا مرغوا خدودهم عليه ولا عفروها بترابه، ولا جعلوا عليه دربوزا ولا كسوة، ولا ولا.. مما لا يساعد عليه دينك يا الله”.
وقال عبد السلام بن عبد القادر بن سودة: ومن أفعاله أي (شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي) المذكورة صرخته الكبرى في وجه الطوائف الضالة المنسوبة للشيخ مَحمد -فتحا- ابن عيسى والطائفة المنسوبة للشيخ علي ابن حمدوش وغيرهما من الطوائف الذين كانوا يفعلون أفعالا لا يقبلها الشرع مثل الشطح في الأسواق والأزقة على نغمات المزامير والطبول، وأكل اللحم النيئ وضرب الرؤوس بشواقر، وجعل النار في أفواههم إلى غير ذلك من الموبقات، فقد سعى بكل جهوده لقطع دابر ذلك من المغرب ولم يهمل السعي وراءه حتى صدر الأمر بمنعه من جلالة الملك محمد الخامس عام أربعة وخمسين وثلاثمائة وألف وأراح الله من ذلك البلاد والعباد. (سل النصال وإتحاف المطالع لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة موسوعة أعلام المغرب 9/3383).
وقال الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب العلامة عبد الله كنون: “وقد كان من جراء استفحال هذا الاعتقاد الفاسد.. ورسوخه في أذهان الناس وتمكنه من عقولهم أن زخرفوا الأضرحة وزينوها بأنواع الزينة، وبنوا على القبور القبب العالية وألبسوها حلل الديباج والخز المذهبة التي أقل ما فيها أنها عين التبذير والإسراف المذمومين شرعا وعقلا.. فجاء هذا الفعل داعيا أقوى للعوام على زيادة الإفراط والغلو في تعظيمها واحترامها بمعنى عبادتها وإشراكها مع الله تعالى في الخلق والرزق وسائر صفات الألوهية المختصة به والمستحيلة على غيره، فصلوا إليها، وقربوا لها قربانا، ونذروا لها نسكا وقدموا إليها هدايا.
وأنا بعين رأسي شاهدت والله علي من الشاهدين الرجل لما وقف تجاه إحدى تلك القبب خرسا جدا وجعل يدعو ويتبتل إلى صاحبها كما يتبتل ويدعو إلى الله عز وجل، بل منهم من يجعلونه سبحانه وتعالى تقدمة لصاحب تلك القبة في أن يقضي لهم ما يطلبونه منه، وهكذا..
فانظر واعتبر وتبصر، فهذا الذي خافه علينا منذ ثلاثة عشر قرنا ذلك النبي الشفيق الرحيم الرؤوف النصوح بأمته صلى الله عليه وسلم فقال: “اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد”، وحذرنا منه لأنه ذريعة لعبادته كما رأيت”. اهـ (جواب الأستاذ عبد الله كنون للمكي الناصري تدعيما لكاتبه إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة).