لقد بات مفهوم الولاية الحقيقي -كما ورد في الكتاب والسنة وبحسب ما فهمه سلفنا الصالح- غائبا عن كثير من الناس والطوائف، وصار المتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة “ولي الله”: ذاك الشيخ الذي يتمتم بأحزابه وأوراده، قد تدلت السبحة حول عنقه، وامتدت يداه إلى الناس يقبلونها وهم يكادون يقتتلون على التمسح به.
وآخرون يرونه مجذوباً متسكعاً على قارعة الطريق حافي القدمين، متسخ الثياب فيشيع بينهم أنه ولي يعتقدون أن لمثل هذا سر مع الله.
وآخرون يدعون له العصمة بل يرفعونه -عياذا بالله تعالى- فوق مقام الأنبياء والمرسلين ويشرِكونه مع الله تعالى في خصائص الربوبية والألوهية.
وربما رأوا كاهناً أو عرافاً يخبر الناس بما يغيب عنهم من ماض وحاضر ومستقبل فيظنون فيه الولاية لله مع علمهم بأنه لا يأتي الصلوات ولا يحضر الجمعة ولا الجماعات، ويظنون فيهم صنوف العجائب والكرامات.
وقد غفلوا عن حقيقة مهمة ألا وهي استغلال بعض الدجالين وأدعياء الكرامة لهذا الجهل بين الناس، وساعدتهم الجن والشياطين على ذلك ففعلوا بالناس ما كانوا يفعلونه في السابق بأصنام المشركين حين كانوا يتكلمون من خلالها فيظن الناس أن الكلام صادر من أصنامهم ليزداد اعتقادهم وإيمانهم بألوهية أصنامهم، وصار من الناس اليوم من يعتقد أن من أولياء الله من يطوي اللهُ لهم الأرض والزمن، حتى إن منهم من يصلي الصلوات الخمس في اليوم الواحد في خمس بقاع مختلفة من العالم، وأن بعد المسافات لا يَحول دون اطلاعه على أحوال تلاميذه ورعايته لهم ولو من بعيد، وأن أولياء الله يتفاوتون في المراتب، فمنهم الوتد ومنهم النجب ومنهم القُطب ومنهم الغَوث، ومنهم خاتم الأولياء كما أن هناك خاتم الأنبياء.
بل ظنوا أن منهم من يدخل أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب، يقول أحمد التيجاني: (وليس لأحدٍ من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا، وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلاّ أنا وحدي! وأما سائر سادتنا الأولياء رضي الله عنهم فيدخلون الجنة أصحابهم بعد المناقشة والحساب). (الطبقات الكبرى: 2/90، وكشف الحجاب: 373-374).
وهكذا قامت في أذهان الجهال من الناس مملكة هرمية وهمية من الأقطاب والأبدال والأوتاد، بهم تقوم الأرض والسماء وبهم تقضى الحوائج وتفرج الكربات وتُحل الأزمات. (انظر أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السني)
وصار كل من ينكر هذا الانحراف أو يحاول تقويمه مُتهَما بأنه عدو للأولياء، جاحد لكلام رب السماء: “أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” (يونس 62).
لقد ورد لفظ (ولي) ومشتقاته 90 مرة في كتاب الله تعالى، منها 54 في جانب أولياء الله، و36 مرة في جانب أعداء الله ممن تولوا الشيطان والذين ظلموا.. والكل داخل في حزب الشيطان.
و”أولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول الواقعة وآخرها، وفي سورة الإنسان والمطففين، وفي سورة فاطر”.
ولا يمكن الحديث عن الأولياء دون التطرق إلى مسألة الكرامة، رغم أنها ليست شرطا في الولاية، وقد عد علماء السلف مسألة الكرامات من جملة معتقد أهل السنة والجماعة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى في عقيدته المشهورة بالطحاوية: “ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم”.
وقال ابن عزوز المالكي في كتابه “عقيدة التوحيد الكبرى”:
“كَرَامَاتُ الأَوْلِيَاءِ حَقٌّ، يَخْرِقُ اللهُ لَهُمُ العَادَةَ إِكْرَامًا، وَلاَ إِشْكَالَ فِيهَا لِأَنَّهَا فَرْعُ المُعْجِزَاتِ، نَالُوهَا بِاتِّبَاعِ الأَنْبِيَاءِ وَسِرِّ الاقْتِدَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ تَتَعَلَّقُ بِهَا هِمَّةُ وَلِيٍّ. وَشَرْطُ الكَرَامَةِ أَنْ لاَ تَخْرِقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية، ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجرى الله على أيديهم من خوارق العادات”.
قال السفاريني رحمه الله تعالى في منظومته:
وكل خارق أتى عند صالح من تابع لشرعنا وناصح
فإنها من الكرامات التي بها نقول فاقْف للأدلة
ومن نفاها من ذوى الضلال فقد أتى في ذاك بالمحال
فإنها شهيرة ولم تزل في كل عصر يا شقا أهل الزلل
فأهل السنة والجماعة يعرفون لأولياء الله مكانتهم، ويثبتون لهم الكرامات والخوارق التي قد تحصل لهم بأمر الله عز وجل، وينبذون الغلو التطرف بدعائهم بعد موتهم والاستغاثة بهم وبناء القباب والأضرحة على رفاثهم.
لقد أنكر علماء المغاربة هذا الغلو وشنعوا على أصحابه، قال القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ترجمة أبي محمد الأصيلي: “وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء، ويثبت منها ما صح سنده”.
وقال الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب العلامة عبد الله كنون رحمه الله تعالى: “..والمسلم لا يمكن أن يشتغل بمطالعة أحوال السلف الصالح، والبحث في تاريخهم والتنقيب عن مآثرهم ما دام ممتلئ الوفاض من كتب المناقب والخرافات التي تطابق ما عنده من نفسية منحطة وأفكار سافلة.
..والمسلم لا يمكن أن يعتقد نزول ضرر بالأمة أو حدوث هلاك للوطن ما دام يعتقد أن البلاد مضمونة وأن الشيخ يدافع عن الذين آمنوا به وأنه لا زال حيا في قبره يراقب حركات الأعداء، ويتربص بهم الدوائر، الأمر الذي يجعل ذلك المسلم في غنية عن البحث في الداء حتى يستخلص الدواء، ويتركه آمنا مطمئنا لا يندفع للدفاع عن شيء ولا يتزعزع منه شيء. (نحن والطرق).
وإسهاما منا في المشاركة وإغناء البحث حول هذا الموضوع العقدي المهم، وتجلية أقوال ومواقف علماء المغرب البارزين حول ما وقع من غلو وانحراف في هذا المعتقد ارتأت جريدة السبيل فتح هذا الملف.