أنكر الله جل وعلا على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها حقيقة فقال تعالى: “وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً”.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: “فيها انكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة”.
ومن ثم فمن الغلط الفاحش البين الخطر قبول قول الناس بعضهم في بعض دون تحَرٍّ في النقل معتمدين على الشائعات بلا تحرز من ذلك.
فالواجب إذن على العاقل أن يتثبت وأن يتبين حتى ينكشف له الأمر ويظهر، فبذلك يعرف دين المرء ورزانته وعقله.
قال الحسن البصري رحمه الله: “المؤمن وقاف حتى يتبين” الفتاوي 10/382.
وقال الشوكاني رحمه الله: “ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر” فتح القدير 5/20.
وقد قرر الله جل وعلا قاعدة التثبت والتبين في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”.
قال السعدي رحمه الله عند تفسيره للآية:” وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصُدق، وإن دلت على كذبه كُذب ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا”.
وليعلم أن قاعدة التبين قائمة على أسس ثلاثة:
أولا: التثبت من الناقل وهذا بدروه راجع إلى أمور ثلاثة:
أ ـ النظر إلى طويته وقصده، ولذلك آثار على ظاهره كما بينه شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة النبوية.
فالنظر في الطوية أمر أساس في التثبت في خصوص الناقل لما قد يكون بين الناقل والمنقول عنه عداء أو حسد أو ما اشبه، مما يدفع إلى الذم والقدح.
ب ـ التأكد من ضبط الناقل، فقد يكون المرء عدلا في نفسه لكنه لا يضبط الأخبار ولذلك جاء عن جمع من السلف أنهم يستسقون بأناس ولا يأخذون عنهم خبرا.
قال الخطيب رحمه الله في الكفاية 1/158، باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية وإن عرف بالصلاح والعبادة اهـ، ثم ذكر تحت هذا الباب جملة من الآثار، من ذلك عن أبي الزناد عن أبيه قال: “أدركت بالمدينة كذا وكذا شيخا كلهم ثقة وكلهم لا يؤخذ عنهم الحديث”.
ج ـ التأكد من عدالة الناقل لأن الفاسق لا يقبل خبره.
قال العلامة ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن 4/1715 عند تفسيره لآية الحجرات: “… المسألة الثانية: من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار اجماعا لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها”.
ثانيا: التثبت من المنقول فيه وعنه بمراعاة أصل طريقته وسيرته فيما إذا نقل عنه كلام محتمل.
قال ابن القيم رحمه الله: “والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه”. المدارج 3/521.
مثال ذلك قول الذهبي رحمه الله: “روى أبو داوود عن أحمد قال :أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإذا شاؤوا تركوه.
قلت (أي الذهبي): هذا محمول على أنهم يترددون في الاحتجاج به لا أنهم يفعلون ذلك على سبيل التشهي” السير 5/168.
ثالثا: التثبت في الكلام المنقول وذلك بمراعاة أمور منها:
أ ـ التفريق بين ضبط الخبر ونقله بالمعنى، يقول ابن تيمية رحمه الله:” وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم” منهاج السنة 6/303.
ب ـ التحقق من الكلام المنقول هل هو من الذي يذم به المرء أو يمدح.
عقد الخطيب رحمه الله في الكفاية بابا في “بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر ما لا يصلح جارحا” منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركب على برذون فتركت حديثه!!
ج ـ مراعاة الكلام العرفي.
قال السبكي رحمه الله: “والخبرة بمدلولات الألفاظ ولا سيما العرفية التي تختلف باختلاف أعراف الناس وتكون في بعض الأزمنة مدحا، وفي بعضها ذما أمر شديد لا يعلمه إلا قعيد بالعلم” قاعدة في الجرح والتعديل.
د ـ مراعاة سابق الكلام ولاحقه.
يقول السعدي رحمه الله مقررا ذلك: “وهذا الأصل واضح معلوم من لغة العرب وغيرها ومن العرف بين الناس، ولو لم يعتبر ما قيد به الكلام لفسدت المخاطبات وتغيرت الأحكام… فكذلك نعتبر ذلك في كلام الناس ونحكم عليهم بما نطقوا به من إطلاق وعموم ومن قيود وتخصيصات” القواعد والأصول الجامعة 62/63.
ز ـ مراعاة أن لازم المذهب ليس بمذهب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “لازم المذهب ليس بمذهب إلا أن يستلزمه صاحب المذهب” الفتاوي 5/306، قلت: أو دلت على ذلك قرائن قوية.