العربية لغة القرآن الكريم، وهي ليست لغة قومية، ولكنها لغة دينية تجمع حولها المسلمين جميعاً عرباً وعجماً وأمازيغ…؛ لكونها لغة القرآن، وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء/193-195) فلما وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية، خصوصاً حين أناط الله بها كلامه المنزل، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف)، وقال عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت)، وقال سبحانه: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر).
ومن هنا قال حافظ الشاعرعلى لسان العربية:
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات
وقال الشافعي رحمه الله في الرسالة: “ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا؛ وأكثرها ألفاظا؛ ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ”.
وقد أشار الشافعي رحمه الله تعالى إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده وآفاقه.
وقال رحمه الله: على الخاصَّة الّتي تقومُ بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلّم لسان العرب ولغاتها، التي بها تمام التوصُّل إلى معرفة ما في الكتاب والسُّنن والآثار، وأقاويل المفسّرين من الصحابة والتابعين، من الألفاظ الغريبة، والمخاطباتِ العربيّة، فإنّ من جَهِلَ سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها، وافتنانها في مذاهبها جَهِلَ جُملَ علم الكتاب، ومن علمها ووقف على مذاهبها، وفَهِم ما تأوّله أهل التفسير فيها، زالت عنه الشبه الدَّاخلةُ على من جَهِلَ لسانها من ذوي الأهواء والبدع.
قال الثعالبي في كتابه فقه اللغة وسرّ العربية: “من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمداً، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمداً خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” اهـ. (اقتضاء الصراط المستقيم 1/207).
وقال المرتضى الزبيدي: “من أبغض اللسان العربي أدّاه بغضه إلى بغض القرآن وسنة رسول لله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي، نسأل الله العفو” اهـ.
وقال ابن تيميّة رحمه الله: “فإنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون” (اقتضاء الصراط المستقيم ص 203).
وقال ابن القيّم رحمه الله: “وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها، ورسائلها..” (الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن ص:7).
وللغة تأثير بالغ على العقل والخلق والدين؛ وفي القرب والبعد عنها معيارٌ لقربنا أو بعدنا عن مصادر عزّتنا؛ قال شيخ الإسلام: “اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيراً قويّاً بيّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلق”. (اقتضاء الصراط المستقيم ص 207).
لذا كان “السلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات، وهو التكلّم بغير العربية إلاّ لحاجة، كما نصّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: (مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه)؛ مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوّغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام”. (الفتاوى 32/255).
وقال رحمه الله: “وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة الكتاب والسنة والاقتداء بالعرب في خطابها”. نفسه.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ما قوله: “أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي”.
وفي حديث آخر لعمر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: “تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم”.
ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد كراهة الرَطانةِ، وتسميةِ الشهورِ بالأسماءِ الأعجميّةِ، والوجهُ عند الإمام أحمد في ذلك كراهةُ أن يتعوّد الرجل النطقَ بغير العربية .