حتى لا يسترسل المسلم في خطأ وقع فيه، أو هوى انساق إليه، لا بد له في حياته من وقفات مع نفسه وإخوانه، للمراجعة والتصحيح من جديد، والسير -بعدئذ- على بصيرة ونظر سديد، خاصة في المسائل العلمية التي تحتاج إلى علم أكيد، والتأصيلات المنهجية التي ظهر فيها ضعف شديد..
ذلك أن المرء إذا اتخذ لنفسه مجرد آراء لا يحيد عنها، ولا يقبل المراجعة فيها، ظانا الأخذ بالصواب في خصوصها1، قد لا يسلم من هوى يطغيه، أو انحراف وظلم يرديه، فـ”إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي..”2.
فقد كثر في هذا الحين الكلام في مسائل المنهاج دون علم ولا سراج وهاج، بل بالظن والوهم وفساد التصور بعيدا عن مسالك الحجاج، وصدق من قال: “ليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم؛ ولم يتجاوزوها، فصارت حجابا لهم وأي حجاب”3.
فالواجب على المكلف إذا لاح له الصواب أن يسعى للأخذ به حتى يصير من أولي الألباب، وأن يكون دأبه الدوران مع الحق حيث دار4، لا أن يدور حيث دار شيخه ولو خالف الحجة كالشمس في رابعة النهار5، فهذا المسلك لا شك أنه يحمل على طلب الحق وتحريه، بخلاف المقلد خامد الذهن بليد الفكر مغبون العقل، فـ” التقليد يُبعد عن الحق، ويروج الباطل”6، و”لا يورث إلا بلادة”7، و”المقلد راض أن يغبن عقله”8.
فاحذر -عبد الله- التفريط في تحري الحق 9 فإن البعض يعتقد الباطل ويدين الله به، مع علمه بوجود مخالفه، وهو مع ذلك لم يدقق ويحقق ما الذي حمله على الركون إلى ما يعتقده ويدعوا إليه وقد أخذه ابتداء دون بينة بل على عِلاَّته10.
فالآفة إذن التي تحمل الناس على عدم المراجعة والتصحيح لما هم عليه من سبيل مبناه على الرأي ومجرد النظر بلا دليل صحيح: اعتقاد المبطل أنه هو المحق، وأن مخالفه هو المبطل، فمثل هذا انتقاله عن ضلاله وباطله صعب إلا أن يشاء الله، وقد كان أول ظهور لهذه الصفة بصورة جماعية مع ظهور الخوارج11.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “المصيبة العظمى: رضا الإنسان عن نفسه واقتناعه بعلمه 12، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق”13.
فالسلامة في التحقيق والتدقيق وطرح كل تخمين وقول فيه تزويق فإن “الميل إلى الأقوال الباطلة ليس من شأن أهل التحقيق الذين لهم كمال إدراك، وقوة فهم، وفضل دراية، وصحة رواية، بل ذلك دأب من ليست له بصيرة نافذة، ولا معرفة نافعة”14.
يقول العلامة ابن ناصر السعدي رحمه الله: “فإن من اعتاد الجري على أقوال لا يبالي دل عليها دليل صحيح أو ضعيف أو لم يدل: يخمد ذهنه، ولا ينهض بطلب الرقي، والاستزادة في قوة الفكر والذهن”15.
فلا تسترسل -يا رعاك الله- مع ما أنت عليه، وفيه ما فيه دون مراجعة من للحق يريد، ولا تصحيح المستفيد فإن “انتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي توضحت حجته، أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة، واتباع هوى، فهذا مذموم”16.
قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله: “الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما، لا يٌنال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوق والإشراف إلى سببه، ولا يهجم على البطالين المعرضين، ولا يناجي أشباه الأنعام الضالين”17.
ومن الأمور المعينة في مسار التصحيح والمراجعة عدم الغفلة عن الاستشارة التي تفتح باب الاستنارة، وهذا في غير ما بان وكان خفيا، أو لم يظهر وكان ظنيا18 فلا شك أن المشاورة مشاركة للعقلاء في فهومهم وعلومهم “ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد”19.
فـ”من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما يزل، والعقل الفرد ربما يضل”20.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: “فإن الله لم يجمع الصواب كله لواحد، ولذلك شرعت المشاورة، فإن الصواب قد يظهر لقوم، وقد يغيب عن آخرين، وقد قيل للشافعي رحمه الله: (أين العلم كله؟ فقال: في العالَم كله).
يعني: أن الله فرقه في عباده، ولم يجمعه في واحد”21.
فمن أغفل المشورة أصيبت مقاتله، ولا يغفلها إلا متكبر أو جاهل، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعلم الخلق والمسدد من عند الحق، وصحابته العلماء رضي الله عنهم كالمقدم الصديق أبي بكر، ومن ضرب الله الحق على لسانه وقلبه كعمر وغيرهم يشاورون غيرهم، فمن هذا الذي فوقهم علما وهدى وبصيرة حتى يستغني عن المشاورة؟ وقد “كان يقال: اجتماع آراء الجماعة وعقولها مبرمة لصعاب الأمور”22.
فلا تغفل رحمك الله عن المراجعة والتصحيح، بناء على توقع حصول الخطأ منك وصدور الرأي القبيح، ما دام الأمر لم يبنى على التدقيق والتنقيح، أخذا بالبرهان الصريح، خاصة فيما له تعلق بالأمور المنهجية التي خاض كثير من الناس فيه بلا نهج صحيح، كل ذلك طلبا للحق ورجاء في رأب الصدع بين القلوب، وأن يلتئم الصف الجريح.
…………………………………..
1. ترجم الحافظ الذهبي رحمه الله لأبي حيان التوحيدي، ونقل عنه أنه قال: “أناس مضوا تحت التوهم، يظنون أن الحق معهم، ولكن الحق ورائهم”.
فتعقبه الإمام الذهبي رحمه الله بقوله: “وأنت حامل لوائهم” السير 17/121-122.
2. قالها أبو الزناد رحمه الله كما في صحيح البخاري رحمه الله.
3. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين 210.
4. قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: “ندور مع السنة حيث دارت” شرح أصول الاعتقاد للالكائي رحمه الله 1/64.
5. وقد استعملها صاحب تاج العروس في مواضع منها 1/19، ويقال كالشمس في رائعة النهار انظر المعجم الوسيط 1/382، وكذا جواهر الأدب 1/399.
6. كما قال ابن بدران رحمه الله في المدخل 490.
7. انظر منهاج السنة 5/281 لابن تيمية رحمه الله.
8. قاله ابن حزم رحمه الله في مداواة النفوس 74.
9. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب، أو عجز فيه عن معرفة الحق، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك النظر، والاستدلال الموصل إلى معرفته” الفتاوي 3/314.
10. أما بعد أن ينتهي النظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له العلم في ذلك، فلا بد من الثبات والصلابة وأن يعرض عن كل المشككين، تشبها بالعلماء الراسخين كما قال العلامة المعلمي رحمه الله: “والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها، ولم يبال بما قد يشكك فيها، بل إما يعرض عن تلك المشككات، وإما أن يتأملها في ضوء ما قد ثبت” الأنوار الكاشفة 34، وانظر الموافقات 4/225.
11. انظر الاستقامة 1/13-14 لابن تيمية رحمه الله.
12. وهذا في حق من لم يضبط الأمور ويحقق المسائل فتذكر.
13. صيد الخاطر 374.
14. كما قال الشوكاني رحمه الله في أدب الطلب 40.
15. المناظرات الفقهية 37.
16. الفتاوي الكبرى 5/125 لابن تيمية رحمه الله.
17. قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر 175.
18. قال العلامة السعدي رحمه الله: “إنما التي تحتاج إلى مشاورة: الأمور الخفية التي لا تعلم حقيقتها ولا منفعتها” تيسير اللطيف المنان 149.
19. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين 1/84، وما أحسن ما سطره هو نفسه رحمه الله في هذا الصدد حيث قال: “وإذا عظم المطلوب، وأعوزك الناصح العليم، فارحل بهمتك من بين الأموات، وعليك بمعلم إبراهيم عليه السلام” مفتاح دار السعادة 1/32.
20. قاله أحد البلغاء كما في درر السلوك 74، وقال السعدي رحمه الله: “الفكر والمشاورة أكبر الأسباب لإصابة الصواب، والسلامة من التبعة، ومن الندم الصادر من العجلة، ومن عدم استدراك الفارط” تيسير اللطيف المنان 150.
21. أحكام الجهاد وفضائله 95.
22. العقل وفضله لابن أبي الدنيا رحمه الله 46.