.. من النصوص التي تثبت بأن الصوفية قالوا بمثل ما قال به أصحاب الديانات الوثنية:
قول شيخهم الأكبر ابن عربي: والذي قاله لتقرير عقيدة وحدة الوجود:
فلولاه لمــا كنا ولولا نحن ما كانا
فإن قلنا بأنا هـو يكـون الحق إيانا
فيظهرنا ليظهر هو سـرارا ثم إعلانا
فيظهر للقارئ في هذه الأبيات عقيدة وحدة الوجود وضوحا جليا خاصة في البيت الأخير وهو قوله: (فيظهرنا ليظهر هو) وهو تصريح بين أن كل هذه المخلوقات خلقها الله ليظهر فيها هو.
ويقول أيضا:
الـرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك نفي أو قلت رب فما يكـلف
وقال أيضا : “فاعلم أنه لا إله إلا الله فهذه كلمة تدل على أن النفي هو عين الإثبات هو عين النافي في عين المثبت هو عين المثبت هو عين المنفي فإنه ما نفى إلا الألوهية وما أثبت إلا الألوهية” اهـ.
فابن عربي يريد أن يجمع بين الأضداد؛ فكل الآلهة هي الله، والله هو الآلهة، والمخلوق عنده هو عين الخالق، والخالق هو المخلوق، ولا ثمّ إلا هو (سبحانه عما يصفون).
وقد وصف شيخ الإسلام مذهبهم فقال: ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، ويقولون: إن الأصنام هو وجود الله، وأن عباد الأصنام ما عبدوا شيئاً إلا الله .
– فالصوفية ينكرون ثنائية الوجود، علما أن الوجود كما هو معلوم ينقسم إلى قسمين:
• وجود واجب: هو الوجود الذي وجوده من ذاته، ويستحيل عدمه، وهو الله سبحانه وتعالى.
• ووجود ممكن: هو الموجود الذي وجوده من غيره، وهو يقبل الوجود والعدم، وهو كل ما سوى الله من الموجودات .
فهم يعتقدون أن الله تعالى هو الذي له وجود وحده، أما الكائنات والمخلوقات فهي معدومة أزلا وأبدا، وينظرون إلى غيرهم على أنهم عقول محجوبة تتوهم وتتخيل أن المخلوقات موجودة.
وهو ما يؤكده شيخ الصوفية الأكبر (في الزندقة) ابن عربي إذ يقول: (الكون خيال) .
ويوضحه الجيلي:
ليس الوجود سوى خيال عند من يدري الخيال بقدره المتعاظم
ويقول القاشاني: (كل خلق تراه العيون فهو عين الحق، ولكن الخيال المحجوب سمّاه خلقا، لكونه مستوراً بصورة خلقية) .
وهم لا يعنون بهذه الأقوال إنكار الأشياء المحسوسة، وجحد الأشياء المشهودة: كالجبال، والأشجار، ونحو ذلك، وإنما قصدهم إنكار كونها خلقا، وذلك لاعتقادهم أن الكائنات -كلها- هي الله تعالى، ويؤكد هذا ما قاله النابلسي: وما هما [أي:الخالق والمخلوق] اثنان، بل عين واحدة .
كما أنهم يعتقدون أن الله تعالى يتجلى في صور المخلوقات المختلفة، والسبب: هو أن الله كان وجوداً مطلقاً، ليس له اسم ولا صفة، ثم أراد أن يرى نفسه في مرآة هذا الوجود، وأن تظهر أسماؤه وصفاته، فظهر في صور الكائنات المعدومة العين، الثابتة في علمه تعالى .
فهم يرون الله تعالى في الدنيا على الدوام، وأنهم لم يحجبوا عنه طرفة عين، يقول أبو العباس المُرسي -شيخ الشاذلية بعد أبي الحسن الشاذلي-: (لي الآن أربعون سنة ما حُجبت فيها عن الله طرفة عين) .
ويقول شيخهم الأكبر (في الزندقة) ابن عربي: العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء .
بل حتى ما لا يرى أيضا. يقول ابن سبعين: الله فقط، هو الكل بالمطابقة .
ويقول الجيلي:
وأَطْلِق عِنان الحق في كل ما ترى فتلك تجليات من هو صانع
وأكثر من هذا وتماديا في الباطل، صرحوا بأن الكائنات الدنسة السافلة في الحقيقة هي الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيراَ. يقول ابن سبعين: “اختلط في الإحاطة الزوج مع الفرد، واتحد النجو مع الورد” .
أتدرون معنى النجو : هو الغائط الذي يخرج من بطن الإنسان، أكرمكم الله.
ويقول الشُّشتري متغزلاً في الذات الإلهية!:
محبوبي قد عم الوجـود وقد ظهر في بيض وسود
وفي النصارى مع اليهود وفي الخنازيـر مع القرود
بل ادعوا أن الله هو الموجودات -شريفها ووضيعها- هي ذات الله، وأيضا هو المعدومات والممتنعات.
يقول الجيلي واصفا الله تعالى: “هو الجامع للشيء وضده، ولهذا قال من قال: إن الله هو عين الوجود والعدم، فأما قوله: عين الوجود فظاهر، وأما قوله: عين العدم ففيه سرّ دقيق لا يطلع عليه إلا الكُمَّل من أهل الله” .
ويقول النابلسي عن الله تعالى: قَرُب وبعُد، ودنا وعلا، وجمع بين المِثلين، والضدين، والخلافين، والنقيضين .
وكما ترى فمراد الصوفية من وحدة الوجود، يصعب تصوره، وبيانه على وجه معقول كما أشرنا إليه في المقدمة، والعجب إقرارهم بذلك مصرحين بأن الصوفي إذا أراد الوصول إليها فعليه أن يلغي عقله.
ومن ذلك قول شيخهم الأكبر (في الزندقة) ابن عربي لما أشار إلى اعتقاد وحدة الوجود في كتابه “الفتوحات المكية”: وقد أوردنا تحقيق ذلك الكتاب، مفرقا في أبواب مَنَازله وغيرها بطريق الإيماء لا بالتصريح، فإنه مجال ضيق تضيق العقول فيه لمناقضته أدلتها .
وصرح الجيلي بذلك أيضا عن هذا الاعتقاد فقال: وهذا في العقل محال .
ويقول محمد السمنودي: هذه الأمور [أي: مباحث الوحدة] لا تدركها العقول .
ومن هنا يتضح للقارئ حقيقة هذا المذهب في العقيدة رغم بحث الصوفية عن مسوغات عقلية لمذهب وحدة الوجود، رغبة منهم في إقناع أتباعهم ومريديهم بهذا المعتقد. وهو ما يوضحه ويؤكده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: “إن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، ولا يحتاج -مع حسن التصور- إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة”اهـ .
وبهذا تم بحمد الله بيان الأصل الأول: (وحدة الوجود) وفي العدد القادم بحول الله، نلقي الضوء على الأصل الثاني: (الإتحاد)..