أزمة الأخلاق أزمة مستفحلةٌ في مجتمعنا غائرة غوراً أصاب طبقات المجتمع كلَها، حتى الطبقةَ المنصبغة بصبغة العلم والثقافة والأدب، وصبغةِ الغنى والوجاهة، إلا من رحم الله، وقليل ماهم.
وكثيرون هم أولئك الذين يخالقون الناس بأخلاق نفعيةٍ، محكومةٍ بالمصلحة حيناً، ومفروضةٍ بالأعراف والتقاليد الاجتماعية حيناً آخر، تدور مع المنفعة والمصلحة وجوداً وعدماً.
لذا؛ إذا أردت أن تسبُر أخلاق الرجل وتضعها على المحك، فلا تعتبرها في معاملته مع معارفه، ممن تربطه به علاقة اجتماعية أو مصلحة نفعية، ولكن تحسّسْها في تعامله مع غيرهم ممن لا يعرفهم ولا تربطه بهم علاقة اجتماعية أو نفعية, فهذا محك صادق يكشف لك زيف النفاق الاجتماعي الذي كنا نظن أنه أخلاق مطبوعة مطردة.
ربما سُقتَ إلى أحدهم لحاجةٍ تُقضى بيده، فتجد منه الفظاظة والغلظة والنزق وقلة الاحترام وعدم المبالاة؛ حتى إذا عرَّفته بنفسك، وذكّرته بما بينكما من علاقة اجتماعية مفروضةٍ، أو مصلحةٍ مشاعة، اضطرب وتأسف وسأل العفو عما بدر، وقال لك بنبرة تنكرها منه، فيها التودد والتلطف وحسن الأدب والخطاب: عفواً! لم أعرفك؟!
فماذا عسى أن تكون هذه الصبغة من الأخلاق إن لم تكن ضرباً من النفاق الاجتماعي، الذي يطبع الرجل على وجهين من الأخلاق، فخلقٌ حسنٌ يخصه لمعارفه ومن تربطه بهم منفعة، وخلق سيء يجعله خالصاً لغيرهم ممن لا يعرفه، ولا يرتجي منه مصلحة.
هذه صورة موحشة من أزمة الأخلاق التي نعيشها، وللأزمة صورٌ أخرى كثيرة، تدل على أن فقه الأخلاق الذي تشبعنا منه تنظيراً لم يتبعه تطبيق واقعي… انظر مثلاً- إلى أدبنا في حوارنا مع المخالف، على أي مسألة كان الخلاف، فإنك لواجد فيه أموراً منكَرةً تدلك على تجذّر أزمة الأخلاق في مجتمعاتنا، يبدأ حواراً، ثم يؤول تعالماً وفجوراً في الخصومة، وسوءَ أدب مع أهل الأقدار، وتشهيراً ولمزاً بالأعيان، واستخفافاً بالمخالف وتحقيراً، وتكاد تغيب لغة العقل والمنطق والدليل مع هذا التهارش والإسفاف والتعالم، يبدأ الحوار نقداً في الرأي فينتهي بنقد قائله وتعييره بخِلقته التي لا يد له فيها ولا اختيار، وأكثر ما تجد هذا فيمن ينادي بالحرية، وبقبول الآخر واحترامه، وبثقافة التعدد، فإذا هو أول من يخفَق في ظلها، وأولُ من يجتوي جوَّها.
ولختاما فصور هذه الأزمة كثيرة نكتفي بما ذكرنا واللبيب تكفيه الإشارة.