قال تعالى: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ” [الزمر:23]، قال قتادة: هذا نعت أولياء الله، نعتهم بأنها تقشعر جلودهم ثم تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان.
قال تعالى في وصف الصفوة من عباده: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ” [الأنبياء]، ومعنى الخشوع هنا: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعته الجوارح والأعضاء خاشعة مطيعة لله، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.
ومما يبين قيمة الخشوع أن خيار الأمة عوتبوا عليه، ولما يمض على إسلامهم زمن طويل، قال الله تعالى: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” [الحديد]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية.. إلا أربع سينين” أخرجه مسلم، ولعلك تدرك من لفظ الآية والتي بعدها: أن طول الأمل سبب لقسوة القلب، وأن قسوة القلب مظهر من مظاهر عدم الخشوع وأن الله يحيي الأرض الميتة بماء السماء، كذلك يحيي القلوب بوحي السماء، قال الله تعالى: “لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ” [الحشر]، قال أبو عمران الجوني: “والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه على الجبال لمحاها ودحاها”، وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول: “أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه”.
إن الخاشعين لله حقا هم الذين يحبون الله ويثبتون هذه المحبة بالتقرب إليه بالطاعات، وهم الذين يخافون عقابه، ويؤكدون خوفهم بالبعد عن المحرمات، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن أعرض عن ذكر الله فلا يبال الله بأي أودية الدنيا أهلكه، نسأل الله السلامة ونعوذ به من الغواية.
وليس من خشوع العين رؤيتها لما حرم الله، ولا من خشوع الأذن سماعها لما حرم الله، وليس من شأن اليد الخاشعة أن تمتد إلى حرام، ولا من شأن القلب الخاشع أن ينطوي على الخواطر الرديئة وسيء الأخلاق والاعتقاد، “إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” [الإسراء].
ومن صفات الخاشعين البكاء من خشية الله، والصبر على ما أصابهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ووجل القلوب عند ذكر الله، وتعظيم شعائر الله، وعدم كتمان شيء من الحق أو بيع الدين من أجل الدنيا، ويقينهم بلقاء ربهم، وأنهم إليه راجعون.