وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ

عندما يدور الزمان دورته, وعندما يعلو الران, وتختل الأوزان, وعندما تتبلد الأحاسيس، وتفسد القيم, وعندما يصبح الذئب ناصحا للغنم, ويصبح الماجن مصدرا للقيم, ويتأرجح الإنسان بين الصدق والكذب, ويعيد أناس قصة إبليس مع آدم, يحار اللبيب من هذا الأمر وينبهر.
اختلطت الموازين كما أخبر الصادق الأمين: “سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”صحيح.

قال بعض الحادقين:
وكم رجال أجادوا النفاق *** فصارو بغير علم شيوخا
زمن ضاعت الموازين فيه *** فغدى الدرهم الرديء جنيها

فهذا التلبيس لتحقيق الأهداف منهج إبليسي قديم, انتحل فيه إبليس شخصية الصادقين, وارتدى عباءة الناصحين, ناطقا بالكذب ومدعيا الصدق “إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ”، كذبة غيرت حياة آدم وزوجه, وأخرجتهما من النعيم المقيم.
“وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ”, قال البغوي رحمه الله:”(فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ) أي: خدعهما, يقال: ما زال فلان يدلي لفلان بغرور, يعني: ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول.
وقيل: حطهما من منـزلة الطاعة إلى حالة المعصية, ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل, والتدلية: إرسال الدلو في البئر, يقال: تدلى بنفسه ودلى غيره, قال الأزهري: أصله: تدلية العطشان البئر ليروى من الماء ولا يجد الماء فيكون مدلى بغرور, والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش”.
واعجباه! من قوم يخادعون الناس, ويعيدون تمثيلية إبليس بانتحالهم شخصية الناصحين المصليحن, فيصورون الانحلال تفتحا, والدياثة “موضة”, والتفسخ تقدما, والمجون تحضرا, والاعتصام بالدين تخلفا ورجعية, ولو اطلع هؤلاء على التاريخ لأيقنوا أن عز الأمة في دينها, لا في اتباع زبالة أفكار الغرب.

هـذه هـي الأمـراض قـد فتكـت بنـا فــي عـصـرنـا و دواءهـــا الإســـلام
ولا ينقضي العجب من قوم بدلوا المشاعر والعواطف بفعل المصالح النفسية الذاتية والمكائد العلمانية الخارجية والطائفية والقومية, وتبلدت أحاسيسهم بفعل التعود على ما يصوره وينقله الإعلام من مناظر ورسوم تصير القلب بعد أن يتشبع بها أشد قسوة من الحجر, فيصبح هذا القلب لا ينكر منكرا ولا يعرف معروفا, كما أخبر سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه” رواه مسلم.
هذا الحديث يدندن حول فتن الشهوات المادية والشبهات الفكرية التي تعرض للعبد المؤمن, والتي يلقيها شياطين الإنس والجن, حول وجود الله وملائكته وكتبه ورسله وحول صدق ماجاءت به الرسل الكرام من عقائد الإسلام فتمسخ الفطر وتركسها.
“وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ” حينها يُدجّن المتلقي على التكيف والتطبع مع ما يجري حوله وينخدع انخداع الحَمَل بوعود ذئب.

آه مـــن مسترسـلٍ فـي غيّـه *** كانـت العليـاء يـومـاً موطـئـه
كــم حـقـودٍ تنثـنـي هامـتـــه *** كـذبـاً يحـمـل عــدوان مـئــه
ربّــمـــا تــأكــلــه أحـــقـــاده *** مثلـمـا يـأكـل فــأرٌ مـنـســـأه
ربّـمــا أهـــدى عـــدوٌ بــاقــةً *** والأفـاعـي بيـنـهـا مختـبـئـه
سـرّ هــذا الـكـون لا نعلـمـهُ *** إنّـمــا يـعـلـمـه مــــن بــــرأه
أمّتـي هل من رجوعٍ صـادقٍ *** ليعيـد المجـد مــا قــد بــدأه
وإذا خــالــط قـلــبــاً صــــدأٌ *** فسيجلـو ذكــرُ ربّــي صــدأه
إلـجــئــي لله يــــــا أمّــتــنــا *** فـاز مـن كـان إلهـي ملـجـأه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *