باستثناء جماعة العدل والإحسان وحزب الأمة والطليعة والاشتراكي الموحد الذين يشكلون قطاعا واسعا من حركة 20 فبراير والذين أصروا على رفض الدستور الممنوح “البعيد عن روح الديمقراطية” والذي لا يمثل -حسب وجهة نظرهم- “إرادة الشعب؛ ويكرس الهيمنة والاستبداد والتحكم الفردي”؛ فقد أعربت العديد من الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية كحزب العدالة والتنمية وحزب النهضة والفضيلة وحزب البديل الحضاري؛ وباقي الأحزاب الأخرى والعديد من الجمعيات والحركات والهيئات الإسلامية عن قبولها الدستور الجديد الذي أعلن عنه الملك محمد السادس في 17 يونيو المنصرم.
جاء هذا الموقف المتباين نتيجة اعتبار ما أراده كل طرف من الدستور الجديد؛ فإذا كانت رؤية جماعة العدل والإحسان وحزب الأمة الرافضة للدستور نابعة من استمرار تمركز العديد من السلطات في يد الملك؛ فإن الأطراف الأخرى -رغم مآخذها الكثيرة على الدستور الجديد- فقد رأت أن هذا الدستور كان أكثر اعتناء بالمرجعية الإسلامية؛ وحسم النقاش مع العلمانية بعد أن أكد بكل صراحة أن الإسلام هو ركيزة الأمة في حياتها العامة؛ وعزز مكانة العربية، وأبقى على الزواج الشرعي موجها لبناء الأسرة المغربية، وجعل الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع لا الفرد كما تسوق لذلك المنظومة العلمانية؛ وجعل من المجلس العلمي الأعلى مؤسسة دستورية؛ وجعل الدين الإسلامي من الأمور التي لا تتناولها المراجعة.
وهي مكاسب دفعت بالعديد من العلماء والهيئات والحركات الإسلامية إلى تصريحهم بقبول الدستور الجديد؛ حيث ثمن الدكتور محمد المغراوي رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة من خلال بيان أصدرته جمعيته ما تضمنه نص الدستور من تعزيز صريح لمكانة الدين الإسلامي في الهوية المغربية بكل مكوناتها؛ وجعل المرجعية الإسلامية حاكمة على كل المقتضيات الدستورية والقانونية؛ وهو ما يتمثل في ديباجة الدستور التي نصت على أن “المملكة المغربية دولة إسلامية” وأن “الهوية المغربية تتميز بتبوأ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها” و”جعل الاتفاقيات الدولية في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة”.. وفي فصله الأول الذي أكد على أن الأمة تستند في “حياتها العامة على ثوابت جامعة”، وجعل أولها “الدين الإسلامي السمح”.
وسجل الدكتور المغراوي أنه كان يجب التنصيص في الدستور على سمو الشريعة الإسلامية على غيرها؛ استنادا إلى ما دلت عليه نصوص كثيرة قطعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتغليبا لمراعاة المصالح العليا للبلد في هذه الظروف الحساسة، واعتبارا لما تضمنه الدستور من تعزيز وإعلاء للهوية الإسلامية؛ دعا الدكتور المغراوي المغاربة إلى التصويت بنعم؛ مع تأكيد وجوب الاستمرار في المطالبة بالتنصيص على منزلة الشريعة الإسلامية في منظومة التشريع والتقنين.
وبالموازاة مع ذلك أعلن مجلس الشورى لحركة التوحيد والإصلاح عن قبوله للتصويت بنعم على مشروع الدستور الجديد، ووصف بلاغ الحركة الظرفية التي جاء فيها الإعلان عن الدستور المُعَدَّل بأنها “تاريخية تؤسس لتعاقد جديد”، مضيفاً أن هذه الهيئة ستستمر في المطالبة بتعزيز المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع سواء على المستوى الدستوري أو التشريعي.
ولفت المصدر ذاته إلى أنه مهما تكن قيمة الوثيقة الدستورية، فإن أثرها الملموس على الواقع لا يظهر جليا إلا إذا تحولت مضامينها ومقاصدها إلى ثقافة والتزام يومي لدى مختلف الفاعلين في الساحة السياسية.
وأعرب رئيس حركة التوحيد والإصلاح الأستاذ محمد الحمداوي أن دعم مكانة الهوية الإسلامية والمغربية في الدستور الجديد، يعد من الأمور التي تدفع إلى التصويت عليه بالإيجاب.
وأن من المكاسب التي أتى بها الدستور الجديد دسترة مؤسسة الأسرة وحمايتها وصيانتها باعتبارها خلية أساسية للمجتمع، والتنصيص في الفصل 175 على أنه “لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي…”، وغيرهما من الأمور التي أعطت بشكل عام نفَسا إيجابيا للدستور الجديد.
وأن المشروع نص على احترام ثوابت الأمة الإسلامية والوطنية والتاريخية، وأكد على إسلامية الدولة المغربية، و”قيد سمو الاتفاقيات الدولية بضوابط”، وأكد على “استناد الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة أولها الدين الإسلامي”، وقال، “من اليوم ومن خلال هذا الفصل، لم يعد بالإمكان إبعاد الدين عن الحياة العامة”.
وأفاد ذ.الحمداوي بأن الدستور الجديد “اعترف رسميا بالمجلس العلمي الأعلى، وتمثيله في المحكمة الدستورية وفي المجلس الأعلى للسلطة القضائية”، وطالب بـ”التذكر الجيد للفصل 175 وتحفيظه للناشئة”، وهو الفصل الذي يتحدث عن “إدراج الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، ضمن ما لا يمكن أن تتناوله المراجعة”، وهو ما فسره بكون الأحكام الثابتة من الدين الإسلامي، “غير قابلة للمراجعة”.
في حين دعى متابعون للحراك السياسي الذي يشهده بلدنا أنه ينبغي التركيز على أن الملاحظات التي كانت تؤاخذ على الدستور القديم لم تكن تهم التشريع بأكثر ما كانت تهم التطبيق؛ إذ مشكلة فئات واسعة من الشعب المغربي كانت إزاء تأويل وتنفيذ النصوص القانونية؛ وقد سجل بعض “فقهاء” القانون ملاحظات ومؤاخذات عدة على الدستور الجديد، وأن بعض نصوصه تحتمل أكثر من قراءة وتأويل؛ وأن الشيطان يكمن في تفاصيل الممارسة.
وشكك مراقبون في الإرادة الصادقة للإصلاح في ظل اسمرار بعض رموز الفساد في مناصبهم؛ وتحكمهم في دواليب الاقتصاد والسياسة؛ أو خروج بعضهم من الباب ليعود مرة أخرى من النافذة؛ وإغفال ملفات كبرى عالقة؛ كملفات حقوقية تتعلق بمعتقلي الرأي وإغلاق أكثر من 67 جمعية وطنية فاعلة ودور القرآن الكريم التابعة لها دون أي سند قانوني، وإيجاد حلول للمطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة التي تعبر عنها فئات واسعة من الشعب المغربي خاصة في العالم القروي، ونهج حكامة اقتصادية جيدة؛ ومحاربة اقتصاد الريع واستغلال خيرات البلاد وتمركزها في فئة قليلة من الشعب المغربي دون موجب حق.
والأيام القليلة القادمة كفيلة بكشف نوايا النظام الصادقة إزاء الإصلاح؛ باستجابته لمطالب أبناء شعبه؛ ورفع الحيف والظلم عنهم؛ وتمتيعهم بحقوقهم الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كاملة كما نصت عليها فصول الدستور.