العلمانية تقف منذ أكثر من قرن ونصف وراء دعم العامية داخل دول الإسلام

ليس غريباً على المستشرقين الحاقدين والمنصرين المتربصين الرامين إلى هدم القرآن بهدم لغته؛ وتصييره كالإنجيل اللاتيني الذي لا يستطيع قراءته إلا القساوسة والرهبان؛ ليس غريبا عليهم أن يشنوا الهجمات تلو الهجمات على لغة الضاد وألفاظها وتراكيبها؛ ويشككوا في قدرتها على مسايرة العصر، وليس غريبا أيضا أن يهاجم العربية ويسمها بالتخلف وعدم قدرتها على مواكبة تطورات العصر الإلكتروني فئة من الفرنكفونيين المتشبعين بالثقافة الفرنسية حتى الثمالة؛ الذين يفكرون بالفرنسية ثم يترجمون أفكارهم إلى الدارجة أو العربية للتعبير عن مكنونات صدورهم؛ إلا أن الغريب حقا هو أن يحارب العربية من يكتب بها ويعتمدها لغة للخطاب والتواصل؛ وينشر من خلالها سمومه الفكرية ويطبع لانحرافته السلوكية؛ الغريب فعلا أن يتنكر للعربية من يعرف قوتها ودقتها ومرونتها؛ وسعت ألفاظها وجودة أمثالها؛ وقدرتها الهائلة على البيان والوفاء بالمعاني؛ ثم يدعو بعد ذلك كله إلى اعتماد العامية واللغة الدارجة!

إن الحرب على اللغة العربية تمثل حلقة من مسلسل صراع طويل بين الحق والباطل؛ بين الشريعة والعلمنة؛ وقد شهد التاريخ أن كل دعاة العامية داخل الدول الإسلامية كانوا أناسا مشبوهين؛ تربطهم علاقات بدوائر دول الاحتلال الذين وضعوا بذرة هاته الدعوة الطائفية.
فقد كان المعجَبُ بالـغـرب رفــاعــةُ رافع الطَّهْطَاوي -الذي أُرسـل إماماً لأول بعثةٍ علميّةٍ إلى الغرب- أولَ من دعا إلى اسـتـعـمـال العامية داخل الدول العربية وتدوين قواعدها؛ قـال فـي كـتـاب أصدره عام 1868م أسماه: (أنوارُ توفيق الجليل من أخبار توثيق بني إسماعيل): إنَّ الـلـغـة المـتـداوَلة المُسمَّاة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهمُ في المعاملات الـسـائــرة لا مــانــع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ وتصنف بها كتب المنافع العمومية، والمصالح البلدية..” اهـ . (الصراع بين القديم والجديد في الأدب الغربي، للكتاني).
وقد سبقه إلى هذا من العرب لكن في روسيا محمد عياد الطنطاوي حيث عمل في تدريس العربية ولهجاتها المحلية في مدرسة لازارف الإكليريكية للغات الشرقية بموسكو وهي فرع جامعة الإمبراطورية في بترسبورغ وله مؤلف في العامية المصرية بعنوان: “أحسن النخب في معرفة لسان العرب” أصدره سنة 1848. أنظر تاريخ الدعوة إلى العامية ص 24.
ومن هؤلاء الدعاة من دعا إلى إلغاء الإعراب كقاسم أمين سنة 1912م؛ وتسكين أواخر الكلمات عوض إعرابها؛ وقال سلامة موسى: والتأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس حديثاً؛ إذ يرجع إلى ما قبل ثلاثين عاماً حين نعى قاسم أمين على اللغة العربية صعوبتها، وقال كلمته المشهورة :إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم ونحن نفهم لكي نقرأ. (انظر: الاتجاهات الوطنية 2/372، وتيارات مسمومة، 273).
ولمثل دعوته في ترك الإعراب دعا عبد العزيز فهمي وتبعهما كثيرون مثل يوسف الخال؛ الذي دعا إلى تحطيم بنيان اللغة والتخلص من العبء الثقيل وهو الإعراب، وكثيرون سواه دعوا إلى ذلك.
ومنهم من دعا إلى إصلاح قواعد الكتابة مثل: أحمد لطفي السيد الذي يقول: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين، ثم دعا إلى قواعدَ جديدةٍ ابتكرها مزهــواً بذلك.
أما أنـيـس فـريـحــة فـقـد أصـــدر عــام 1966م كتاباً أسماه: (في اللغة العربية وبعض مشكلاتها) أهداه إلى كل معلِّم يدرّسُ العربية؛ رونقه بحديثٍ في أوله عن مزايا العربية، ثم رنَّقهُ -كدَّره- بوصم العربية بالعجز عن الــلـحــاق بـالـعـلــوم والفنون، وجعل هجاءها من مشاكلها، ودعا إلى تيسير ذلك، وأخذ يحيي اقتراحاتٍ بائدةً لإصلاح ذلك .
كما تأفف من مشكلات القواعد النحوية، واشتكى من الصرف ودعا في ثناياه إلى العامية!
وزعم مارون غصن أنَّ اللغة العربية ضعيفة في كل شيءٍ؛ ولذلك هبَّ مسارعاً لتسهيل هذه الـلـغــة فوضع كتاباً اسماه: (نحو عربية ميسرة) سنة 1955م، وكتب مقالاً عنوانه: (هذا الصرف وهذا النحو أمَا لهذا الليل من آخر؟)، سخر فيه من قواعد العربية، ودعا إلى تركها. (لماذا يزيفون التاريخ 325).
أما صاحب فجر الإسلام (أحمد أمين) فقد دعا إلى إصلاحٍ في متن العربية وانطلقت دعوته تلك من منبر مجمع اللغة العربية؛ فهو أحد أعضائه. (أنظر مجلة البيان؛ الهجمة على اللغة العربية لإبراهيم بن سعد الحقيل).
وكل من تحدث عن الإصلاح يلوك مقولة ملكية الجميع للغة ويتهمون كل مدافع عنها بأنه ممن يدَّعِي ملكَ اللغة.
يقول طه حسين: “إن اللغة العربية ليست ملكاً لرجال الدين يُؤْمَنون وحدهم عليها، ويقومون وحدهم دونها، ولكنها ملكٌ للذين يتكلمونها جميعاً، وكلُّ فردٍ من هؤلاء الناس حرٌّ في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك..” (المجموعة الكاملة لمؤلفات طه حسين، علم التربية، 290).
وقال سلامة موسى في كتابه: (البلاغة العصرية) وهو يتحدث عن الفصحى: “إنها تبعثر وطنيتنا وتجعلها شائعةً في القوميَّة العربية”. (الفصحى لغة القرآن، لأنور الجندي ص:137).
لم يكن هذا الانحراف الخطير قاصرا على مصر وحدها؛ فهذا اللبناني إسكندر معلوف أنفق وقته في ضبط أحوال العامية وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابة العلوم؛ لأنَّه وجد أسباب التخلف في التَّـمـســك بـالفـصـحى، ونحا ابنه عيسى نحوهُ؛ وادعى: أن اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أســبــاب تخلـفنا؛ رغم أنَّهُ من الممكن اتخاذُ أي لهجة عامية لغة للكتابة؛ لأنها ستكون أسهل على المتكلمين بالعربية كافة، ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها وهذا أعدُّهُ أعظم خطوةٍ نحو النجاح، وهو غاية أملي. (الاتجاهات الوطنية، 2/363 ولماذا يزيفون التاريخ 318).
ويقول أدونيس: إنني عدو للفصحى ذاتها وأعتبر التمسك بها سبباً أساسياً ومباشراً لما يبدو من مظاهر التخلف عن الشعوب الغربية بلا استثناء، أنا على يقين تام من أن دعوتي إلى الحرف اللاتيني واللهجات العامية سوف تنتصر لا محالة وستأخذ بها جميع شعوب آسية وأفريقية.
وقال الشاعر العراقي الهالك جميل صدقي الزهاوي: فتَّشْتُ طويلاً عن انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين أولهما: الحجاب الذي عدَّدتُ في مقالي الأول مضاره، والثاني: هو كون المسلمين -ولا سيما العرب منهم- يكتبون بلغةٍ غير التي يحكونها. (تيارات مسمومة ونظريات هدامة).
ودعا النصراني الشيوعي لويس عوض إلى العامية وصنف كتاباً أهداه إلى الجاسوس الإنجليزي (كريستوفر سكيف)؛ وكتب ديوانه (بلوتو لاند) عام 1947م الذي دعا فيه إلى كسر رقبة البلاغة العربية وإلى الكتابة بالعامية. (لماذا يزيفون التاريخ، 320، ومجلة الآداب).
وكان للمغرب العربي نصيب من هذه الدعوة؛ فقد أصبحت اللغة العربية لغة ثانية بعد الفرنسية لغة المحتل، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغربية الفرنسية: إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال إفريقيا (الاتجاهات الوطنية، 2/365، ولماذا يزيفون التاريخ، 323).
تلك كانت نتفا من أقوال العلمانيين دعاة العامية داخل الديار الإسلامية؛ وقد ناضل ثلة من الغيورين على الفصحى وناضلوا لأجلها نضالاً جباراً، وتصدوا لهذه الدعوة الباطلة، قال الرافعي رحمه الله تعالى: “من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصر أدباً على حياله، ولكل طائفة من الكتَّاب كتابة وحدها؟! ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟!”.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *