– ثمة كلمة للمستشرق الفرنسي الشهير “شارك بيلاّ” يقول فيها: “أنا أقرأ الأدب العربي القديم وحده ولا أقرأ الحديث؛ لأنه أدب أوروبي مكتوب بحروف عربية”.
– إننا لا نرفض التجديد، ولا يرفضه مثقف لديه أدنى قدر من الوعي بحركة الحياة ومسيرتها الحتمية نحو التطور، لكننا نرفض التغريب الذي يستهدف تذويب هذه الأمة والقضاء على كيانها وهويتها والتنكر لوجودها وأصالتها، تحت ستار العالمية، نرفض هذه الفوضى الضاربة بأطنابها في كل مكان، في الساحة الأدبية الثقافية، فوضى باسم الإبداع، وفوضى باسم النقد، وانغلاق دائرة التواصل بين حملة الأقلام من جانب والقراء من جانب آخر.
الأدب العربي الحديثظهر في العالم العربي في ربع القرن الأخير جيل جديد من الأدباء والنقاد يفيد من إنجازات النقد الغربي المعاصر، ويتبناها ويـبشر بها، مديراً ظهره إلى التراث العربي الذي أنجزته أمته خلال خمسة عشر قرناً، ويدعو إلى قطع كل صلة بالمنجز النقدي والأدبي العربي القديم، ويهرف بما لا يعرف، ويكتب أدبا غير مفهوم؛ سائراً في تيار الحداثة الغربي، ولا يكُفّ بعض هؤلاء عن معاداة عقيدة الأمة، والطعن في نصوح الوحيين اللذيْن يعوقان مشروع التجديد في زعمهم وفي مفهومهم الذي يعني الانحياز إلى إنجاز العقل والتنوير، وكأن الإسلام أو الوحي يُعادي العقل الحقيقي أو يدعو للظلام.
فهؤلاء يرون أن الدين تجربة مجتمع، ونتاج ظروف وبيئة معينة، ويرون أن الاجتهاد الذي تحتاجه ثقافتنا العربية هو الجهد البشري المطلق من كل قيد، الذي لا علاقة له بالنصوص. كما أنهم يسعون إلى تحسين وتزيين مصطلحات خسيسة زائفة لا علاقة لها بالإسلام؛ فهي إما كَنِيسِيّة المصدر، أو ملحدة، كمصطلحات: الحتمية، والعقلنة، والأصولية، والتنوير، والحداثة، والعلمنة، والمعاصرة، ونشرها على الألسن حتى تصيرَ مستساغة مقبولة، وتجدَ بين المسلمين من يدعو لها.
إن هذا التيار المشؤوم واجه التراث العربي القديم مواجهة عنيفة؛ إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف -كما عند غلاة العلمانية- أو بإعادة قراءته قراءة عصرية -كما يزعمون- لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، وأعراف اجتماعية. ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث، والمتجاوزين له: كاهن الحداثة أدونيس، و محمود درويش، والبياتي، وجابر عصفور، وفؤاد زكريا، والطيب تيزيني، ومن سلك دربهم وشايعهم.
فالشعار المرفوع الآن على الساحة الأدبية : “إذا أردت أن تنضم إلينا فاكتب ما لا يفهم وقل ما لا يفهم” انغلاق في الإبداع، وانغلاق في النقد، وانغلاق في الدراسات اللغوية؛ فهناك مجلات تكتب بلغة خاصة، وكتب تؤلف بلغة خاصة، لغة فيها غموض وإيهام، ورموز وطلاسيم، ورداءة وتكلف، وركاكة باردة، وألفاظ متنافرة، ومعان سخيفة ساذجة.
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم: حسن حنفي، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وحسين أحمد أمين، ومن على شاكلتهم، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه.
وقد يعجب القارئ حين يتبين له أن أولئك الغربيين الذين يفتخر بهم هذا التيار الحداثي، ويعتز بهم في كل مجلس ومحفل، من المثقفين الأوروبيين والمستشرقين وغيرهم، لهم موقفهم الساخر المستَغْرَب من ركام ما سموه بالشعر الحر، وغيره من أدب التغريب: يقول المستشرق الإيطالي إيجنازيو سيلوني للأدباء العرب: “إن الطبيعة تأبى أن تعترف بأدب عام لأقوام اختلفت أمزجتهم وعقلياتهم، وتفاوت ميراثهم النفسي والحضاري، ولهذا نود أن نقرأ أدبكم عربياً متميزاً؛ لأنه إنما يأخذ مكانته أدباً عالمياً بتفرده وأصالته”.
فعبارة هذا المستشرق هي أبلغ ردّ على دعوى العالمية البلهاء التي يدّعيها الحداثيون سواء في الشعر أم في النثر، ويسوّغون بها مسلكهم الشائن في التغريب، وسقوطهم كالذباب على موائد الغرب. فالأدب لا يكون عالمياً بالمحاكاة الفجة، ولكن بالتفرد والأصالة. والأديب العربي لا يكون عالمياً إلا بأصالته العربية.
وثمة مقولة أخرى صدرت عن الناقد الإنجليزي “ستيفن سبندر” عندما حضر مؤتمر الأدب العربي المعاصر لذي انعقد بروما في أوائل الستينيات، فقد استمع سبندر إلى أدونيس، وهو يلقي كلمة يدعو فيها صراحةً إلى هدم القديم، يومها وصف “سبندر” كاهن الحداثيين بالتطرف، ووضع أمامه نماذج للتجديد والمجددين في الأدب الإنجليزي الحديث، وكيف أن هذه النماذج المجددة قد بدأت من أرضية الأصالة؛ فالشاعران: “إليوت” و”ماثيو أرنولد” لم يهملا التراث الشعري القديم، بل هضماه هضماً، وأبقيا منه ما هو جدير بالبقاء، ثم زادا عليه، فجاء الشعر عندهما مبنياً على أسس متينة وجذور عميقة، ثم انتهى الناقد الإنجليزي إلى أن وصَف منحى “أدونيس” ويوسف الخال بالتطرف والضياع وعدم الحكمة.
إننا لا نرفض التجديد، ولا يرفضه مثقف لديه أدنى قدر من الوعي بحركة الحياة ومسيرتها الحتمية نحو التطور، لكننا نرفض التغريب الذي يستهدف تذويب هذه الأمة والقضاء على كيانها وهويتها والتنكر لوجودها وأصالتها، تحت ستار العالمية، نرفض هذه الفوضى الضاربة بأطنابها في كل مكان، في الساحة الأدبية الثقافية، فوضى باسم الإبداع، وفوضى باسم النقد، وانغلاق دائرة التواصل بين حملة الأقلام من جانب والقراء من جانب آخر، فالشعار المرفوع الآن على الساحة الأدبية : “إذا أردت أن تنضم إلينا فاكتب ما لا يفهم وقل ما لا يفهم” انغلاق في الإبداع، وانغلاق في النقد، وانغلاق في الدراسات اللغوية؛ فهناك مجلات تكتب بلغة خاصة، وكتب تؤلف بلغة خاصة، لغة فيها غموض وإيهام، ورموز وطلاسيم، ورداءة وتكلف، وركاكة باردة، وألفاظ متنافرة، ومعان سخيفة ساذجة.
وثمة كلمة أخرى للمستشرق الفرنسي الشهير “شارك بيلاّ” فيها: “أنا أقرأ الأدب العربي القديم وحده ولا أقرأ الحديث؛ لأنه أدب أوروبي مكتوب بحروف عربية”.
ونقول لأدبائنا ونقادنا ممن يسيرون هذا المسار: إذا كان الكتاب المقدس هو العمود الفقري للآداب الأوربية في شتى عصورها كما يقول عبد الواحد لؤلؤة، فلماذا انصرفتم عن كتابهم المقدس القرآن الكريم الذي أعيا البلغاء والفصحاء عن أن يأتوا بمثله! لماذا تنكرتم له وخلفتموه وراءكم ظهريا، لماذا سلكتم في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابا، والتشكيك في الدين طرائق قددا، منها الطعن في اللغة الجاهلية من منظوم ومنثور، وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور، ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين، وإتباع أساليب المعاصرين، واستبدال اللغة العامية بلغة القرآن المضرية؟! إن الغرض من هذا وذاك هو صد المسلمين عن هداية الإسلام، وعن الإيمان بإعجاز القرآن، فإن من أوتي حظا من بيان هذه اللغة، وفاز بسهم رابح من آدابها، حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته، وبأسلوبه في نظم عبارته.
إن هؤلاء يريدون من الأديب العربي أن يكفر بأدب لغته التليد، ويترك السبح في بحارها، والاقتباس من أنوارها، وينسلخ من سليقته العربية، ويتبرأ من فطرته الإسلامية، ويتكلف تقليد الغربيين في ترك القوافي والأوزان العربية، ويتنحل المعاني اللاتينية الإغريقية، فيكون في عداد المجددين، ويهدم ما استطاعة مما لأمته من لغة وأدب ودين.
ومن الغريب أن عمدة دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها وصفها بـ (القديمة)، وشبهتهم أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه، ومن المعلوم بداهة أن حسن الأشياء وقبحها الحقيقيين في ذاتها وفائدتها، لا في قدمها وجديتها، وما من قديم إلا وقد كان جديدا، ولا جديد إلا وسيكون قديما، ومن لا قديم له لا جديد له؛ بل لا وجود له، وإنما الأمم بتاريخها، ومَثَلُ من يحاول هدم تاريخ الأمة لأجل تجديدها كمثل من يحاول هدم بنية كل فرد منها ليجدد له بنية أحسن منها، نَعَم كل حي يحتاج من حين لآخر إلى جديد يكون مددا لقديمه لا هادما له، ومصلحا لما فسد منه، ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون انتحال ما هو أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي، والشعر الإغريقي، الذي هو دون الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي، والحق أن كلمة الجديد والتجديد كلمة خادعة للشباب الناشئ، مستهوية لخيالهم، لأنهم لا يريدون إلا جعل هذه الأمة لقمة سائغة لمن يروم تخلفهم وانحطاطهم، بتقطيع ما يربط بعضها ببعض من لغة وأدب وتشريع ودين.