من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة االثالث عشرة) ذ.محمد أبوالفتح

• الدُرَّة المنتقاة:

عن شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ سَمِعَهُ وَهُمْ يَكْنُونَ هَانِئًا أَبَا الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟». فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ؛ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا! فَمَا لَكَ مِنَ الْوُلْدِ؟». قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُسْلِمٌ. قَالَ: «فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟». قَالَ: شُرَيْحٌ. قَالَ: «فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ». فَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ. أخرجه أبوداود (4957) والنسائي (5387)، واللفظ له، وصححه الألباني.

• تأملات في الدُّرة:
في هذا الحديث أن هانئ بن يزيد الحارثي رضي الله عنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: قدم عليه في وفد من قومه ليبايعوه على الإسلام، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قومه يكنونه بأبي الحكم، فدعاه، فبين له أن الحَكَم من أسماء الله تعالى، وأن الحُكم له وحده لا شريك له، وسأله عن سبب اتخاذه هذه الكنية؛ فأجاب بأن قومه كانوا يتحاكمون إليه في الجاهلية فيما يتنازعون فيه، فإذا حكم بينهم بشيء، رضي به الطرفان المتخاصمان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أحسن من هذا” أي: ما أحسن هذا الذي ذكرت، من الحكم على وجه يُرضي المتخاصمين؛ فإنه لا يكون دائما على هذا الوجه إلا بكونه عدلا. حاشية السندي 8/227.
ثم سأله صلى الله عليه وسلم عما له من الولد، فذكرهم له، ثم سأله عن أكبرهم، فقال: شريح، فكناه به، قائلا: “فأنت أبو شريح”، يعني: تكنى بهذه الكنية عوض الكنية التي كنت تتكنى بها في الجاهلية. ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ولولده بخير.

• وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
– أن اتخاذ الكنية عادة عربية أقرها الإسلام في الجملة.
– أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم عدم التساهل مع الألفاظ الشركية، حتى مع حديثي العهد بالإسلام (مما قد يعده بعض الجاهلين تنفيرا).
– أن من هديه صلى الله عليه وسلم سد ذرائع الشرك، وحماية جناب التوحيد.
– أن من هديه صلى الله عليه وسلم عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
– بيانه صلى الله عليه وسلم أن “الحَكَم” من أسماء الله تعالى الحسنى.
– بيانه صلى الله عليه وسلم أن الحُكم لله تعالى وحده دون من سواه، فله سبحانه الحكم التشريعي المتعلق بإرادته الشرعية، كما له الحكم القدري المتعلق بإرادته الكونية، كما قال تعالى: “أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ” (المائدة5).
– بيانه صلى الله عليه وسلم علة كراهيته لهذه الكنية، وفي هذا مشروعية تعليل الأحكام للمكلفين؛ لأن ذلك أطيب للأنفس، وأدعى للإذعان، وإن كان ذلك ليس شرطا عند أهل اليقين والإيمان.
– تلطفه صلى الله عليه وسلم في الإنكار بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وذلك بقوله: “ما أحسن من هذا!”؛ ثم بسؤاله عما له من الولد، وفي هذا تودد إلى المخاطب؛ ثم بتكنيته بأحدهم ممن سماه بنفسه غالبا، ولا يختار الرجل لولد إلا ما يحب من الأسماء؛ ثم بالدعاء له ولولده.
– مشروعية التكني بأكبر الأولاد.
– وجوب تغيير الأسماء التي تتضمن شركا بالله تعالى، ومن ذلك مثلا: عبد النبي، أو عبد الرسول، أو عبد الكعبة، أو عبد المطلب… وإنما لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم الأخير لأنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغيير أسماء من مات في الجاهلية.
– حرص الإسلام على سلامة الألفاظ والمباني، كحرصه على سلامة المعاني.
– عدم جواز استعمال الألفاظ التي فيها منازعة لله تعالى في حكمه، فلا يقال: الحكم للشعب، أو للجماهير، وإنما يقال كما قال رب العزة: “إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” (يوسف40).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *