نماذج من جهاد المغاربة ضد المحتل

بعد استيلاء فرنسا على حكم المغرب بتوقيعها معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، مع السلطان مولاي عبد الحفيظ، التي كانت بمثابة معاهدة استسلام، قامت فرنسا بتحديد مناطق النفوذ مع إسبانيا، كما عملت على جلب أحدث الوسائل العسكرية لاستكمال احتلال المغرب، وجندت أبناء المستعمرات، واعتمدت على القواد الخونة المرتبطين بالاحتلال..
ورغم كل ذلك واجه المحتل الفرنسي مقاومة شديدة شرسة في الجنوب والأطلس المتوسط والريف، ولم يتمكن من السيطرة الكاملة على المغرب إلا في سنة 1934م، وسنقوم في هذا العرض السريع بذكر بعض المجاهدين الأشاوس الذين كبدوا جيوش الاحتلال خسائر جسيمة، وسجلوا أسماءهم في تاريخ المغرب بماء الذهب.

جهاد موحا أو حمو الزياني في الأطلس المتوسط
اعتبر ليوطي دخول فرنسا إلى مدينة خنيفرة في 1914 فتحا يسحق التنويه به والافتخار؛ لأنه انتصار على محمد أحمو الزياني، ومما جاء في خطابه الذي ألقاه يوم 25 أكتوبر 1914 بسوق الأربعاء الغرب: “فها نحن طردنا الهيبة من مراكش، ودخلت جنودنا ظافرة لتادلة وتازة، وأخرجنا الزعيم الزياني من الخنيفرة..”.
بعد ذلك لجأ المجاهد موحا أحمو الزياني إلى مكان يعرف بـ”لهري” على بعد عشر كيلومترات من خنيفرة، اتخذه كمركز للقيادة وتوجيه ضربات قاسية للمحتل الفرنسي، هذا الأمر دفع بفرنسا إلى الإكثار من الجواسيس قصد الاستطلاع، حتى جاءهم جاسوس يعرف بالشاوش عمر بخبر محمد احمو الزياني ومكان تخييمه، كما أمدهم هذا الجاسوس بمعلومات وضعوا على أساسها وما شاكلها خريطة الميدان والهجوم المباغث على المجاهد الزياني ورجاله.
وفي ليلة الزحف الفرنسي على مخيم المجاهد الزياني نبه فرس القائد الأصيل بصهيله على أن هناك أمر غير طبيعي، الشيء الذي دفع بزوجة محمد أحمو الزياني يطو علي لمرابطية إلى إرسال رجلين للاستطلاع، ففعلا ثم عادا بالاطمئنان، لكنها رأت حالة الجواد تزداد حدة وعنفا، فكذبت حدس الرجلين ثم امتطت جواد أحدهما واتجهت صوب الربوة الأبعد، فوقع بصرها على جحافل القوم تتحرك كأنها موج يعلو ويهبط بين الشعاب والربوات، فرجعت مسرعة دون أن تقول لأحد ما رأت حتى دخلت الخيمة ثم أيقظت زوجها محمد أحمو الزياني وهي تقول بصوت الآمر وبلهجتها الأمازيغية “أكره القايد”=”قم القايد”، “أرومي أرومي” أي الروم وتعني بهم الفرنسيين.
فأمر القائد بهد الخيام وجمعها، وأمر بتوجه النساء والأطفال إلى تيغسالين وآيت يحند، كما وجه المقاتلين إلى حيث يحيطون بمن يحل مكانهم، وحتى لا يرتاب الغزاة أمر بإيقاد النار هنا وهناك، وفي أماكن متباعدة حتى يتصاعد دخانها فيحسب الغزاة أن القوم لم يبرحوا مكانهم.
لم يعلم الفرنسيون ولا جواسيسهم بما كان يجري في مخيم القائد محمد أحمو بالهري فتقدمت قواتهم إلى حيث كانت خيام المجاهدين لتجده قاعا صفصفا بل ولتجد جيوش الغزاة نفسها محاطة بالذين كانوا أم لصيدها.
وكان تعداد القوات الفرنسية يقول العقيد فوانو 873 جندي تحميهم 8 من المدافع و33 ضابطا و175 للاحتياطي والمواصلات والإشراف على الذخيرة والتموين، و45 مستطلع للاستكشاف الكل حصدوا حصدا وفي ساعات محدودة إلا قليل منهم.
كانت هذه من أروع بطولات المجاهدين يوم 13-11-1914 كما أرخ لها الفرنسيون.
واستمر المجاهد محمد أحمو الزياني على جهاده إلى أن امتدت له يد الغدر بتاريخ 23-3-1921 ولم يكن الغادر الذي قتله إلا ولده الحسن حسب إجماع الرواية التي اتفق عليها الجميع ممن شهد الواقعة.
لم ينته الجهاد في هذه المنطقة من المغرب بوفاة القائد محمد احمو الزياني بل استمرت حتى 1931 حيث أن المعارك اشتدت ضراوة بمنطقة ايشقرون وآيت شخمان، وآيت حنين، وآيت يحيى ويوسف، وحتى تمحضيت، وبقريت وأفكو، ورأس تارشا وقوبات وافكوا حرون.
ويبقى سلاح الخيانة دائما هو أفتك سلاح يستعمله العدو ضدنا!

جهاد الشريف محمد أمزيان
ومحمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف
بعد اغتيال الشريف محمد أمزيان يوم الإثنين 26 جمادى الأولى 1330هـ/13 مايو 1912م، زعيم المقومة الريفية في بداياتها، الذي قال فيه محمد بن عبد الكريم الخطابي لما رآه ميتا في المستشفى بمليلية: “..وعند أول نظرة عرفته وطفت به وعلامات الشجاعة والحماس تلوح على وجهه، رحمه الله رحمة واسعة..”
كما قال التقرير الفرنسي الصادر عن مركز الاحتلال بوجدة: بتاريخ 29 مايو 1912: هذه الشخصية كان قائد المحاربين الريفيين ورئيس الحراكات بالريف ومطالسة وبني بويحيى وكان قلب الصراع مع الإسبان منذ سنة 1909، وسبق أن أنزل بهم خسائر في الأرواح.
..إن أهمية شخصيته تقاس بالفرحة التي عبر عنها الإسبان حين وصل جثمان عدوهم اللدود وكان أثناء الحرب هو بجوار المحاربين يحرضهم على القتال والاستشهاد في سبيل الله. أمزيان كان بالريف بمثابة الرمز”.
وبعد سيطرة الإسبان على الريف، ظهر جهاد منظم تزعمه في البداية عبد الكريم الخطابي قاضي بني ورياغل، ثم بعده ابنه محمد بن عبد الكريم، الذي ربط كفاحه بكفاح الشعوب التي تخوض الحروب التحررية.
واعتبر تحرير الريف مرحلة أولى لتحقيق استقلال المغرب. وحقق الجهاد الريفي انتصاراته الأولى في معركة بومجَّان، ومعركة سيدي إبراهيم، ومعركة جبل أُبَرَانْ، لكن أهم انتصار حققه هذا الجهاد، هو انتصاره في معركة أنوال في يوليوز 1921 أمام القوات الإسبانية التي قادها الجنيرال سيلفستر.
هذه المعركة تعتبر من المعارك الشهيرة في التاريخ العسكري، حيث انتصر المجاهدون المغاربة الريفيين بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي على إسبانيا، بفئة قليلة من الريفيين وبوسائل بسيطة حققوا نصرا على جيش عتيد وأسلحة متطورة فتاكة، وتمكن أهل الريف من قتل 25.000 عسكري إسباني، بما فيهم قائدهم المتعجرف الجنرال سيلفستر.
حتى أن هذا الجهاد وصل في سنة 1924 إلى التضييق على العدو الإسباني ولم يترك تحت سيطرته إلا العرائش وأصيلا وسبتة ومليلية.
وقد نظم محمد بن عبد الكريم المناطق المحررة وفرض التجنيد الإجباري، فوجدت إسبانيا نفسها عاجزة عن احتلال الريف، فتحالفت مع فرنسا التي أصبحت تنظر بجدية لحركة الخطابي التي تهدد مصالحها، واستمرت المواجهات العسكرية ضد المحتلين من 1924 إلى 1926 حيث سلم القائد محمد بن عبد الكريم الخطابي نفسه للقوات الفرنسية، ولم يستسلم للإسبان الذين كانوا يكنون له الحقد والبغضاء نتيجة ما قاسوا من أهوال الحرب التي خاضوها ضد الريفيين، وخسروا فيها ما يزيد عن 500.000 جندي وضابط، زيادة على الميزانية الضخمة التي خصصوها لهذه الحرب، ثم قام الفرنسيون بنفيه إلى جزيرة لرينيون لمدة 20 سنة، ثم استقر في مصر لمتابعة النضال السياسي.
كما عرف الأطلس الكبير الشرقي والصغير بجهاد القائد المجاهد عسو أوبسلام بقبائل آيت عطا بالأطلس الكبير، ورغم استعمال الجيش الفرنسي للطائرات والمدافع والقنابل، فإن المقاومين كبدوا القوات الفرنسية خسائر باهظة، ومن أهم المعارك التي خاضوها معركة بوغافر سنة 1933.
كما تزعم الجهاد بجنوب المغرب أحمد الهيبة بن ماء العينين، ففي سنة 1912 خضعت له منطقة سوس، وسيطر أخوه على أكادير وتارودانت، وفي شهر غشت خضع له الجنوب المغربي باستثناء الموانئ وعبدة، وعبر الأطلس الكبير ووصل مراكش في 18 غشت، ومنها خرج لمواجهة الفرنسيين في معركة سيدي بوعثمان في 7/9/1912، لكنه انهزم لضعف عدد جنوده وعتادهم الحربي أمام القوات الفرنسية. وانسحب إلى الجنوب وتابع المقاومة حتى توفي سنة 1919، وتابع المقاومة أخوه مربيه ربه إلى 1934.
وقد استمر الجهاد في عدة مناطق إلى حدود 1934 حيث احتلت الجيوش الفرنسية والإسبانية ما تبقى من المناطق المغربية؛ مثل: تافيلالت وجبل صاغرو بعد إخضاع قبائل أيت عطا، وكذلك منطقة درعة والأطلس الكبير والصغير والمناطق الجنوبية الصحراوية، وفي نفس السنة عرفت المدن المغربية انطلاق الحركة الوطنية التي نهجت الأسلوب السياسي للتحاور مع الاحتلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *