لما زعم ابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا أن النبي خاطب جمهور الناس بطريقة التخيل، بمعنى أنه خاطبهم بما يُخيّل إليه، مع علمه أن ما يقوله لهم ليس حقا، لكنه كذب عليهم للمصلحة، رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أوجه متعددة؛ ذكرنا في الحلقة الماضية وجهين منها؛ ونتم في هذه الحلقة ما تبقى من ذلك.
الثالث: زعمهم أن الله تعالى لم يبعث إلى الناس رسولا، هو قول بلا علم، ودعوى لا دليل عليها، وتكذيب لدين الإسلام وللتاريخ، وجناية على العقل الذي يتبجحون به؛ فأما أنه تكذيب للدين والتاريخ، فهو أمر واضح لا يحتاج إلى دليل من أن الله بعث إلى الناس رسلا كثيرين.
وأما أنه جناية على العقل، فإن العقل لا ينفي ذلك، وإنما يُرجّحه، لأنه ليس من الحكمة، ولا من الرحمة، أن يخلق الله تعالى الإنسان، ويسخّر له هذا الكون، ثم بعد ذلك يتركه ضالا بلا هداية، فلا يُعرّفه بخالقه، ولا بوظيفته التي خلقه من أجلها، وهو -أي الإنسان- في أمس الحاجة إليه لمعرفته وعبادته؛ فالله العزيز الحكيم الرحمن الرحيم منزه عن هذا العبث الذي نسبه إليه أدعياء الفلسفة أتباع المشائين.
والرابع: أن زعمهم بأن الفيلسوف أعظم من النبي، فهو جهل مركب، ورعونة نفس جوفاء، وذلك أن النبي يتلقى الوحي عن الله تعالى بواسطة الملك الأمين المعصوم الذي لا يعصي الله تعالى أبدا، لأن الملائكة (لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يُؤمرون) التحريم:6، والفيلسوف والعلماء والصوفية وغيرهم من الناس، يتلقون معارفهم بواسطة عقولهم القاصرة، وحواسهم المحدودة، وأهوائهم وعواطفهم الجامحة، وخيالاتهم الجانحة، وشطحاتهم الزائغة، ووساوسهم الشيطانية والنفسية؛ فشتان بين من هذه هي وسائل علمه، وبين النبي الذي يتلقى الوحي عن ربه بواسطة الملك الأمين المأمور الذي لا يعصي الله ويفعل ما يؤمر!.
والمثال الخامس، هو زعم الفلاسفة المسلمين المشائين أن الكون قديم لا أول له، فقد ذكر سيف الدين الآمدي أن الفلاسفة متفقون على القول بقدم العالم، منهم: الفارابي وابن سينا وابن رشد أيضا، فإنه قال صراحة بقدم العالم وأزليته في كتبه الفلسفية، وإن تلاعب وحاول إخفاء موقفه في كتبه الكلامية الموجهة لعامة أهل العلم.
وروى الحافظ شمس الدين الذهبي أن الفيلسوف نجم الدين الدبيراني القزويني (ت 675 هـ)، عندما حضرته الوفاة قال له تلامذته: أوصينا، قال لهم: (ما ثبت عندي من النظر شيء، إلا أن هذا العالم قديم)، فقال الذهبي معقبا عليه: (هذا أقبح الكفر الذي أداه إليه ذكاؤه المفرط ونظره التام، فقبح الله الحكمة وأهلها).
وقد تصدى علماء أهل السنة للرد على ما زعمه هؤلاء من أن العالم قديم، وردوا عليهم بشتى الطرق.
أولها: أنهم بيّنوا أن ما ادعاه الفلاسفة يتناقض تماما مع دين الإسلام، وأن ما قالوه هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، لأن حدوث الكون نصت عليه عشرات النصوص الشرعية، لذا أجمع هؤلاء -أي علماء أهل السنة- على تكفير القائلين بقدم العالم، وألحقهم ابن تيمية بالملاحدة.
وثانيا: إنهم بينوا أن ما زعمه الفلاسفة المشاؤون، من أن الفلاسفة أجمعوا على القول بقدم العالم هو زعم باطل لا أساس له من الصحة، فقد ذكر ابن تيمية وابن القيم، أن أساطين الفلسفة -قبل أرسطو- كسقراط وأفلاطون، كانوا يقولون بحدوث العالم، وإنما أرسطو هو أول من عُرف عنه القول بقدم العالم، وقد كان مشركا يعبد الأصنام، وكلامه في الإلهيات خطأ من أوله إلى آخره.