حوار مع الدكتور رشيد الجرموني منسق أعمال (المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة) حول الجريمة في المغرب.. أجرى الحوار: مصطفى محمد الحسناوي

الدكتور رشيد الجرموني: باحث في علم الاجتماع ومنسق أعمال المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، مهتم بقضايا الشباب والقيم والتدين، له دراسة تحت الطبع بعنوان “الشباب وتحولات القيم في المغرب المعاصر”. كما أشرف على إنجاز دراسة وطنية حول “الشباب والتدين”، وساهم في إنجاز تقرير الحالة الدينية بالمغرب لسنوات: 2007/2008 و2009/2010.
وله أيضا العديد من المقالات العلمية المحكمة في المغرب وخارجه
.

1- قبل مباشرة السؤال المتعلق بآخر الأرقام والإحصائيات حول الجريمة في المغرب، نود منكم أستاذ تقديم شخصكم الكريم لقراء السبيل في بطاقة تعريفية مختصرة؟

بداية أود أن أعبر لكم عن شكري الخالص على إتاحة هذه الفرصة مع قراء جريدة السبيل الغراء التي لا تفتأ تقدم مجهودات في سبيل تطوير الفكر والثقافة والوعي في الساحة المغربية، رغم محدودية هذا المنبر، لكنه في نظري يقوم بدور مهم ومشكور، ولعل الانفتاح على مثل هذه القضايا من وجهة نظر سوسيولوجية ينم عن قفزة نوعية في مسار الجريدة، فمتمنياتي لكم بمزيد من العطاء والتألق.
فيما يخص سؤالكم، حول الإحصائيات الأخيرة للجريمة بالمغرب، فحسب آخر الاحصائيات المتوفرة حاليا، والتي تعود لمصدر رسمي (التقرير السنوي للمديرية العامة للأمن الوطني 2010)، فإن العدد بلغ حوالي: 473 ألف جريمة سنة 2010 مقابل 457 ألف سنة 2009، أي بزيادة بلغت 3,46 بالمائة، كما تشير نفس النشرة أن سنة 2010 عرفت تراجعا طفيفا في معدل الجريمة الظاهرة، بنسبة 2 بالمائة، أي بمعدل انخفاض يناهز 6196 قضية، وهي المرة الأولى التي يسجل فيها التراجع منذ سنة 2006.
والجرائم التي يتحدث عنها التقرير الصادر عن المديرية العامة للأمن الوطني، يتعلق بالجرائم الماسة بالأموال حيث بلغت النسبة 24 بالمائة، والجرائم الماسة بنظام الأسرة وبالأخلاق العامة 23 بالمائة، والجرائم الماسة بالنظام العام وبالسلطة 2 بالمائة، والهجرة غير الشرعية 2 بالمائة، هذا بالإضافة إلى أنواع أخرى من الجرائم، كالاتجار وتعاطي المخدرات بنسبة 9 بالمائة، والجرائم الاقتصادية والمالية بنسبة 13 بالمائة، أو الجرائم الماسة بالأشخاص بنسبة 17 بالمائة.
وهذه الأرقام والمعطيات تؤشر على وجود تصدع في بنية المجتمع المغربي، إذ رغم “المجهودات” التي تبذلها الجهات المختصة في مكافحة الجريمة بالمغرب، فإن التطور المتزايد لنسب هذه الجرائم عبر السنوات الأخيرة، رغم تسجيل انخفاضات طفيفة بين سنة وأخرى، فإن وجود رقم 400 ألف جريمة مؤشر دال على حجم التحديات التي تطرحها هذه المعضلة الاجتماعية والاقتصادية وبشكل خاص على أمن المواطن والأسرة والمرأة والقاصرين، إذ أن القراءة المتأنية لبعض الأرقام الواردة في التقرير المذكور تبين أن عدد الجرائم المسجلة ما بين سنتي 2009 و2010 في قضية الضرب والجرح المؤديين إلى الوفاة وصل 239 إلى 230 حالة، أما حالات الاغتصاب فقد وصلت إلى 1507 سنة 2009، مع تسجيل انخفاض في سنة 2010 بوتيرة 1462 حالة.
ولعل من أهم المؤشرات الدالة على خطورة الوضع الأمني والأسري ببلادنا، هو ارتفاع حالات القتل ضد الأصول، وكلنا نتذكر الحوادث البشعة التي تناقلتها وسائل الأعلام في سنة 2011، من بينها قتل أحد أبناء أسرة في الدار البيضاء لأربعة أفراد، بطرقة جد بشعة عن طريق الذبح لأمه وأبيه وزوجه أخيه وأخيه، فيما أذكر وهي جريمة جد خطيرة عرفها مغرب 2011 مما يظهر حجم التفكك الأسري ببلادنا ومدى خطورة الظاهرة وتداعياتها السلبية على بنية المجتمع ككل.
ومن الأمور التي ينبغي توضيحها جليا في هذا السياق، هو أنه رغم أن هذه المعطيات والأرقام التي تنشرها جهات رسمية حول الجريمة والانحراف ببلادنا، فإنها لا تعكس حقيقة الأمر، إذ أن هذه الأرقام لا تمثل سوى الجزء الظاهر من الجبل الثلجي، وذلك أن الكثير من القضايا لا يتم الكشف عنها، ولا تصل إلى الدوائر الأمنية، إما بسبب الاعتبارات الثقافية والسوسيو أنثروبولوجية للمجتمع المغربي، الذي يعتبر في جزء منه محافظا، ولا يستطيع الكشف عن بعض الأمراض (فمثلا حوادث الاغتصاب المسجلة لا تعكس الحقيقة، لأننا نعلم أن هذه المسألة كم هي شائكة بالنسبة لسمعة الأسر، وأيضا الجرائم المتعلقة بزنا المحارم، فكم من قضايا لا يتم الكشف عنها، ومن يشتغل في جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالموضوع، يلحظ بدون عناء انتشار هذه الأمراض الاجتماعية الخطيرة).
وهذا المعطى سبق وأن نبهت إليه المديرية العامة للأمن الوطني، حيث اعتبرت أن نشر المعطيات الإحصائية لسنتي 2009 و2010 لا تعكس سوى القضايا المسجلة والقضايا المعالجة من طرف المصالح الخارجية للمديرية، بعنى آخر إنها لا تعبر إلا عن نسب الإجرام الظاهر.

2- كباحث ومتخصص في علم الاجتماع، هل لكم أن تحدثونا عن العلاقة بين تفشي وتنامي ظاهرة الإجرام والمشروع المجتمعي الذي اختار المغرب السير فيه؟

بداية يصعب الحديث عن مشروع مجتمعي في المغرب، فهذا المشروع لم تتضح بعد معالمه، ولا رؤيته ولا آفاقه، نظرا لأن أي مشروع مجتمعي لا يمكن أن يكون بين عشية وضحاها، ولا من خلال محطة انتخابية أو حراك شعبي ما، فالمغرب في هذه السنوات المقبلة يمر بمرحلة انتقالية بكل ما تحمله كلمة انتقالي من معنى، وبالتالي ففي هذه الخمس سنوات يمكن أن تكون مقدمات لبلورة أرضية ملائمة للحديث عن مشروع مجتمعي متوافق بشأنه بين جميع الأطراف والفاعلين الأساسيين، سواء من طرف المؤسسة الملكية أو الأحزاب السياسية؛ وخصوصا تلك المسيرة لدفة شؤون البلاد أو من طرف المجتمع المدني بكل تلويناته ومشاربه وحساسياته، وبشكل خاص الحركات الإسلامية والدعوية.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث مسبقا عن مشروع مجتمعي لا زالت معالمه لم تظهر، فخمسة أشهر على ميلاد حكومة جديدة برئاسة العدالة والتنمية، لا يمكن أن نربط بينها وبين قضية الإجرام، على اعتبار أن السنة الإحصائية لم تكتمل بعد؛ وبالتالي فإن حديثنا سنصب على مرحلة ما قبل ولادة الحكومة الجديدة، لكن في باب المقترحات يمكننا أن نشير على هذه التجربة الوليدة.
انطلاقا من هذا التحديد، فإن أية محاولة لتفسير سبب ارتفاع معدلات الجريمة بالمغرب، وجب أن يستحضر أن علاقة الدولة بالمجتمع لم تكن في يوم من الأيام علاقة منجسمة ومتوافق بشأنها، إذ أن الدولة الحديثة التي ورثناها عن الاستعمار الفرنسي تغولت لدرجة أنها هيمنت على كل مناشط الحياة العامة والخاصة، وقتلت في المجتمع كل فعالية، ومن ثم فإن بناء هذه الدولة اتسم في لحظات من تاريخها بنوع من التركيب اللامنسجم، بين إرادة نخبة متحكمة في السلطة والثروة والمعرفة والقيم، وبين شعب مهمش ومعزول عن كل الموارد؛ مما سبب العديد من مظاهر الاختلالات سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو بعبارة أوضح على المستوى التنموي.
لكن أهم شيء وجب التوقف عنده في هذا التحليل، هو أن القيم الحضارية التي يتميز بها المغرب، ومنها القيم الدينية الأصيلة فيه، ثم تغييبها بشكل أو بآخر؛ ولم تكن حاضرة في مسيرة التنمية ببلادنا، وفي أسوء الحالات كان يتم توظيفها سياسيا لمصلحة المخزن، لا أقل ولا أكثر.
وغير خاف أن التحولات التي عرفها المغرب طيلة السنوات الماضية، كارتفاع الوزن الديمغرافي لفئة الشباب والتصاعد التمديني (أقصد ارتفاع نسبة التمدين أكثر من 60 بالمائة والرقم مرشح للارتفاع في السنوات المقبلة ليصل إلى 75 بالمائة) والهجرة القروية المتفاحشة، مما خلق أحزمة في هوامش المدن، كانت مرتعا لكل أصناف الجريمة والانحراف والتوتر (مع عدم الوقوع في حتمية سوسيولوجية معينة).
انضاف إلى هذه المعطيات هشاشة البنيات التحيتية فالدولة لم تهيئ الأرضيات والبنيات المستقبلة لأعداد المهاجرين، كما أنها لم تهيئ ما يكفي من مؤسسات وأطر وهياكل لتأطير المجتمع، وفي ظل ترهل أغلب الأحزاب السياسية، وضعف التعبئة التي كان يقوم بها المجتمع المدني، والتضييق الممارس على الحركات الاسلامية… وغيرها من الأسباب المباشرة التي لم تخدم المسيرة التنموية بكل ما يحمله هذا المفهوم من دلالة شاملة.
لهذا أعتقد أن غياب رؤية استراتيجية، -وهذا يظهر في قطاع السياسية العمومية في تدبير شؤون المدينة، وعدم انخراط المجتمع- وفصل المجتمع عن قيمه الثقافية الأصيلة، وغياب الاستثمار في الجوانب القيمية والثقافية ترك فراغا كبيرا، شكل مغذيا لبروز مجموعة من الظواهر السلبية في المجتمع المغربي، ومنها ظاهرة الجريمة.
وهنا لا بد من أن نتسلح بقدر من الموضوعية، فلعل الاطلاع على بعض المعطيات تبين أن الدولة، رغم كل ما قلناه، كانت تبذل جهودا معينة، لكنها لا تتعدى الجهود المادية، كالزيادة في عدد الملحقات الإدارية للشرطة، أو إنشاء وحدات جديدة في بعض المدن، أو بناء مفوضيات أو تعزيزها بالموارد البشرية، لكنني أعتبرها جهودا غير كافية لأن الجريمة والجرائم لا يكفي فيها الجانب الزجري والعقاب، بقدر ما تتطلب جهودا في البناء القيمي والديني والثقافي والتربوي والتأطيري، دون أن ننسى بطبيعة الحال الجهود التنموية ذات المنحى الاقتصادي المادي والتي تهم أساسا تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة للمواطنين، بما يعنيه التوزيع العادل للثروات والتأهيل الحقيقي للعنصر البشري.
وبالموازاة مع هذا التحليل المتواضع الذي لا ندعي له أية علمية، فإننا نريد أن نؤكد على معطى هام يمكن أن يساعدنا في التحليل، وهو التصادم الذي كان يميز السياسات القطاعية للدولة، فغني عن البيان أن السياسات المنتهجة سابقا كان ترسخ في الوجدان والفكر والوعي نوعا من التناقض.
فعلى سبيل المثال الإعلام لم يكن يوازي الخدمة العمومية المقدمة في المؤسسات التربوية، والاقتصاد القائم في جزء منه على عائدات الخمور، والترخيص للعديد من المحلات التجارية الكبرى التي تبيع الخمر في وسط المدن وقرب الأحياء الشعبية دون مراقبة ودون تخطيط التقائي، وفي تنكر لكل القيم الأصيلة للمجتمع المغربي، أدى بشكل أو بآخر لإفراز حالات من التوتر، لعلنا نسوق مثالا شاهدا.
فحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن مديرية السلامة الطرقية، أن السبب الثاني في الحوادث بالمغرب والتي تحصد سنويا ما لا يقل عن 4000 شخص، سببها تعاطي الكحول، مما يضع كل المسؤولين في المحك ويطرح ألف سؤال: كيف يمكن مواجهة حرب الطرق دون الاستثمار في العنصر البشري ومن خلال سد كل المنافذ المغذية للظاهرة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *