نظرات في النظرات والعبرات المنفلوطي يرد على العلمانيين مصطفى محمد الحسناوي

يقف المرء مشدوها أمام ما خطه الأديب الألمعي، مصطفى لطفي المنفلوطي، في أدبه الراقي من بديع الإشارة، وصدق العبارة، وبساطة المعنى، ونبل المرمى، وسمو المغزى، كتابة تعالج الواقع، بلا تفلسف أو تعقيد، ولا إسفاف أو تمييع. وجدتني وأنا أطالع نظراته وعبراته، أحس كأنه يكتب عن واقعنا، يرمقه بنظرات الحسرة، ويذرف عليه من عينيه العبرة تلو العبرة. فاسترقت من بديع ما كتب هذه النظرات.

النظرة الرابعة:
القيم في الدولة المدنية

“حدث أحد الأصدقاء قال: ذهبت ذات ليلة إلى مرقص من مراقص الأزبكية، ولم أكن زرته و لا زرت غيره من قبل، فرأيت على بابه، جنديا يتمشى في عرصته، مشية هادئة مطمئنة، فذعرت لمرآه، وتراجعت قليلا قليلا، وكدت أعتقد أنني أخطأت الطريق إلى المرقص، وأنني بين يدي دار من دور الحكومة، يحرسها حاجبها، لولا أنني لم أر في وجوه الداخلين ذلك الخوف والاضطراب، والذل والانكسار، الذي اعتدت أن أراه في وجوه الشاكين والمتظلمين.
وقفت ساعة أتردد بين الإقدام والإحجام حتى لمس كتفي لامس، فالتفت ورائي فإذا صديق من أصداقي…
فسألته ما هذا الجندي الواقف أمام الباب؟
قال: كيف ذهب عنك أن حكومتنا قد أصبحت اليوم حكومة مدنية.. فتساوت في نظرها المصالح والمراقص، واختلط عليها الأمر بين مواقف القضاء، ومعاهد البغاء، فأصبح الجندي يحمي أبواب العاهرات كما يحمي أبواب الوزارات، ويقف أمام البارات موقفه أمام الإدارات.. وإن العين لا تكاد تملك مدامعها سحا وتذرافا كلما أبصرت هذا الجندي الظريف، واقفا هذا الموقف الذليل، يسمع قراع الدفوف لا قراع السيوف، ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء، ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور. وما أعجب لشيء عجبي لهذه الحكومة التي تضن بجنديها أن يشتمه شاتم… ثم لا تضن به أن تؤجره قوادا في المراقص”.
النص للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي بعنوان “المرقص” ضمن كتابه النظرات ج 3، وهو يصور لنا، في هذا المقطع، الدور الذي أصبحت تقوم به الحكومات والدول بعد تنحية أحكام الشرع وعدل الشريعة، واستبدالها بقوانين الغرب الوضعية الوضيعة.
لقد كانت الدولة الإسلامية قائمة على الدين، لحماية الدين ونشره، إرضاء لرب العالمين، فنعم الناس بحكمها، وعبدوا ربهم حق العبادة في سلطانها، وأمنوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم في ظلها.
ثم لما سقطت دولة الشريعة، وخلفتها الدولة العلمانية بشتى مسمياتها وتلاوينها من مدنية ووطنية وديمقراطية وشيوعية واشتراكية ولبرالية، قامت على إرضاء الناس، وإشباع رغباتهم ونزواتهم، ونشر الرذيلة بينهم لإلهائهم وإشغالهم بالشهوات، ليسهل لها اقتيادهم وسوقهم، فأقامت المراقص وحرستها، والمهرجانات ومولتها، والعري والفسق والفجور والخلاعة وحمتها. بل جعلتها من حقوق المواطن عليها، ومن شروط النهضة والرقي، بل من الوسائل الناجعة لمحاصرة المد الإسلامي ومحاربته، هكذا يقول العلمانيون وهذا هو تصورهم للدولة ووظائفها وأولوياتها، دولة تنشر الفسق والفجور، لا بل تحميه، وتضيق على الفضيلة والتدين، لا بل تحاربه. كل همها أن تشاع الفاحشة، وتنتشر الرذيلة، وتكسر الطابوهات، دولة يكون فيها المواطن حيوانا يستهلك ويجامع بلا قيود أو ضوابط، وييسر له ذلك ويقرب، ويتساوى في التمتع به بين سائر أفراد جنسه.
إن ما حكاه المنفلوطي منذ قرن من الزمن هو ما نعيشه للأسف واقعا، ونراه عيانا، بعد تغول العلمانيين وتسللهم لمراكز القرار، واستقوائهم بأسيادهم من الكفار، فاللهم احم بلادنا من كيدهم ومكرهم واجعل كيدهم في نحرهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *