لم يمض على تولي الدكتور محمد مرسي منصب رئاسة مصر سوى عام واحد، حتى قام وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي -بإيعاز من الخارج- بالانقلاب عليه، منهيا بذلك ولاية أول رئيس منتخب من الشعب في مصر الحديثة.
لكننا بالوقوف على تداعيات الانقلاب وما سبقها من إرهاصات نتبين حقيقة واضحة مفادها أن الانقلاب الذي حصل في يوم واحد لم يكن ليتم بالشكل المحكم لولا ما سبقه من تخطيط تم على مدى كامل السنة التي شغل فيها مرسي منصب الرئاسة.
تخطيط اشترك فيه لاعبون كثر، وكان الإعلام أخطرهم وأخبثهم، فالإعلام الذي يملك معظَم أذرعه بعض رموز النظام البائد وقيادات الحزب الوطني، ما ترك خطوة إصلاحية من الرئيس إلا شانها، ولا طعنة غادرة من قضاء الفلول إلا زانها، ولم يتوقف بقنواته وإذاعاته وجرائده الورقية والرقمية عن الطعن في شرعية حكم الدكتور محمد مرسي، بدعوى الاستبداد بالحكم، وخرق الدستور، وتجاوز أحكام قضائية، وهلم جرا.
كما حرص ذلك الإعلام الفاسد على تجييش جموع الشعب المستاءة من بطء الإصلاحات بحكم تركة الفساد الثقيلة التي خلفها المخلوع وعصابته قبل تواريهم عن المشهد، وهو تهييج باركته وأيدته القوى السياسية العلمانية الراسبة في امتحانات كل الانتخابات التي خاضتها بعد 25 يناير، فلم يعد أمامها بعد الفشل الذريع إلا الضرب تحت الحزام سيرا على سنة اللئام.
وتبقى المعادلة التي عجز العباقرة عن فك شفرتها هي اتهام الرئيس بتهمتين لا يمكن بأي حال اجتماعهما، إحداهما “أخونة الدولة”، والأخرى التمكين للنظام البائد؛ ولعل المقام يطول بما لا يحتمله المقال إن ذهبنا ندحض كل تهمة من تلك الافتراءات السابق ذكرها، لكن تهمة “أخونة الدولة”، وإن كان الأصح هو أسلمة الدولة، تستوجب التأمل والتمحيص، باعتبارها القشة التي قصمت ظهر الإخوان كما يقول الانقلابيون.
لقد بات من المسلمات أن الإعلام المصري الذي طبل وزمر للانقلاب يفتقر إلى أهم ركن معنوي فيه، وهو المصداقية؛ فعلى مدى سنة كاملة لم تتوقف قنوات مثل “cbc” و”ontv” و”التحرير” و”الحياة” و”النهار” و”دريم” و”الفراعين” وغيرها، عن فبركة المشاهد وقلب الحقائق بهدف شيطنة النظام الذي جاء إلى الحكم من خلال انتخابات اعترف الجميع بنزاهتها، واتهام الرئيس بمحاباة فصيل سياسي واحد على بقية الفصائل، علماً أن كل الأنظمة الديمقراطية مجمعة على حق الحزب الفائز بانتخابات الرئاسة في أن يعين من يراه مناسبا من أعضائه على رأس أي مؤسسة حكومية، ولا يطعن في شرعيته أن يَقصر الاختيار على المنتسبين له.
والحقيقة أن الإعلام العلماني كان منافقاً ومدلساً ومضللاً للرأي العام، لأنه من جهة ظل يحرض المصريين على التمرد ورفض حكم الدكتور مرسي المنتخب من الشعب، في حين أنه عمل لسنوات طويلة على تغييب وعي الشعب، من خلال مباركة فترة حكم الديكتاتور المخلوع، وتلميع نظامه الاستبدادي بكل موبقاته وإجرامه بحق البلاد والعباد.
ومن جهة أخرى لأن الواقع يدحض فرية “أخونة الدولة” بقرائن عديدة، منها أن من عينهم مرسي من حزب الحرية والعدالة -الذراع السياسي للإخوان- يُعَدّون على رؤوس الأصابع، وقد بقيت معظم الدوائر الحكومية تحت إدارة نفس الوجوه السابقة، فمن بين خمسة وثلاثين وزيراً يوجد خمسة فقط من جماعة الإخوان، وأربعة فقط من بين سبعة وعشرين محافظاً، فأين الأخونة التي يدَّعيها الأفاكون؟
وكان الرئيس حريصاً على تعيين شخصيات مستقلة سعياً منه لتحقيق إجماع وطني، وهو ما كان سيخدم مصلحة المصريين جميعاً، لولا مكر العلمانيين، وتواطؤهم مع الفلول، وخيانتهم لكل مبادئ الثورة.. لا لشيء إلا بغضاً للإسلاميين، والنكاية بهم ولو بالتحالف مع الشيطان، ولا أدل على هذا من اغتباطهم الكبير بمذابح العميل الفاشي السيسي بحق معارضي الانقلاب، ثم لزومهم الصمت وقوفاً أمام خروج موكب المخلوع من السجن حراً طليقاً ليعربد من جديد؛ وقد أصاب من قال عنهم: “الليبراليون والعلمانيون العرب مستعدون أن يلعقوا حذاء أحقر الطغاة لمجرد أنهم يعادون الإسلاميين”.
وبعد، فقد اتضح للجميع الآن أن الانقلاب كان مؤامرة من الفلول والعلمانيين لإفشال نظام إسلامي كان يبشر بنقل مصر من عقود الاستبداد والظلم إلى رياض الحِلم والعدل والرخاء، فبخيانة النخب العلمانية تمكن الفلول من إسقاط أول رئيس منتخب من الشعب، وإلغاء العمل بالدستور الذي كان بالإمكان تطبيق شرع الله من خلاله، والزج بالأحرار في معتقلات أمن الدولة، واستباحة دماء البقية.. وكل ذلك لتمهيد الطريق لعودة زعيم العصابة اللا مبارك، ولِمَ لا، تنصيبه من جديد رئيساً لمصر، ما دام هناك إعلام مدلس وقضاء مزور وخزائن خليجية سخية.
ولئن كان من خطأ فادح ارتكبه محمد مرسي فهو تأخره في تطهير مفاصل الدولة من فلول الحزب الوطني، وإبعاد العلمانيين عن دائرة الحكم، وهذا هو السبب الرئيس في نجاح الانقلاب عليه، فلو أنه مكن للإخوان -كما يتهمه العلمانيون- لما سقط النظام بهذه السهولة والسرعة.
بتعبير آخر، عدم أخونة الدولة هو الخطأ الذي أسقط مرسي.