في عالم السياسة بات معلوما أن تدخل الغرب الوظيفي المصلحي من البداية واستشراف ما بعدها، هو تدخل لا تطبعه المجانية، بل هو تدخل لا يكون ولا يجيء إلا بمنطق الربح “المركنتيلي” وما تمليه برغماتيته الاستراتيجية أولا وأخيرا.
فقد لا يعبأ هذا الغرب الذي صدر إلينا قوانين الرفق بالحيوان قبل الإنسان بدماء المسلمين وهي تسيل أنهارا، بينما قد تثور ثائرته على كلبة جرفها تيار مائي عرم، كما لا يعبأ وهو يرى نظرياته التي بلغ صداعها وصراخها رؤوسنا فانحنت لها هامات وقامات، وهي تتكسر على صفوان تجاوزاته هو أولا؛ وتجاوزات المستبد وتكالب آلته العسكرية القاتلة.
وكيف له أن يعبأ لهذا كله وزيادة وهو يرى على الأرض ما اعتبرته مؤسساته للدراسات الاستراتيجية مؤشرات ذات جدوى تذهب إلى حد الهمس في أذنه اللاغية بحقيقة أن ما راهن عليه وقامر به بات اليوم كما يقال على كف عفريت، إذ أعطته الشعوب وهي تحمل شعارات الانعتاق من قبضته وقبضة خدامه من بني الجلدة النصاب الكافي لينسف ما بناه من آمال على شعوب كان حكامها يسوقون على أنها شعوب لم يصر بينها والإسلام إلا موثق إسم ورسم، وأنها شعوب تواقة إلى الحداثة وإلى كل ما تجود به مدنية الغرب بعيدا عن مقاربة الحلال والحرام.
ولعل التسليم بهذا يردنا للحديث عن السياق الزماني للتدخل غير المجاني للغرب، على كونه سياق يشرح حقيقة استبعاد هذا الغرب وعلى رأسه أمريكا من الفعل الإجرائي والتدبيري السابق للثورات، ذلك أن الإفراط في ترديد فكرة أن ما جرى ووقع في الساحة العربية الإسلامية لم يكن في النهاية إلا سيناريو محبوك من ذي قبل تم إنتاجه في أقبية دوائر القرار الغربي وقام بتشخيص ملامحه شباب الفيس بوك ورواد غرف الدردشة، هو ترديد مدخول وإفراط مستخف ومستصغر بل وهازئ بما قدمته الشعوب من قبل ومن بعد من نقص في الأموال والأنفس والثمرات في سبيل نوال طيفها المفقود وتحررها المنشود والإنابة إلى ربها المعبود.
وعليه فالحديث هنا لن يكون إلا في سياق اللاحق لا السابق، إذ أثبت الواقع أن الغرب استدرك بعد أن وقف مشدوها مبهورا من أثر ما جاءت تحمله ثورات الربيع العربي من عنصر مباغتة وترابط، استدرك ليمد يد العون لبقايا النظام وفلوله حتى يعود ولو من نافذة الغدر بعدما خرج طريدا من بوابة التاريخ.
وجدير بالتنصيص على أن الغرب استدرك وهو الثائر المجرب قبلنا بعدما رأى ما آلت إليه الأمور وما تحقق على ضوء ما يعلمه من كون أن أبجديات أي ثورة ناجحة ليست إلا مقاصد وطموحات على رأسها إسقاط النظام وقد سقط نوعه وجنسه، والعمل على وضع دستور جديد للبلاد وقد تم وضعه، ثم تشكيل محكمة للثورة وقد تم تشكيلها على النحو الذي جعل الرئيس مبارك ووريثه وأزلامه يقفون خلف القضبان.
والأكبر من هذه الثلاثة أن يسلم الشعب المصري بديموقراطية الغرب وآلية انتخابه مقاليد الحكم الفرعوني للخصوم من الإخوان والسلفيين، وهو ما لا يمكن أن يرضى به الغرب أو أن تقبله مصالحه التي لا يمكنها العيش والتغول إلا في ظل انتقال السلطة لنظام يقتفي أثر النظام الهالك، وهو ما لم يكن ليقع ولا يمكن استشراف وقوعه على نحو سلمي مهادن في ظل معطيات تصرح ولا تلمح على أن الشعب بات يعرف أن أي تنازل عن واحدة من هذه المكتسبات كفيل بحصر الثورة في الوجدان والحكم عليها وعلى ما قدمته من عرض ونفس ومال بالفشل الذي يرهن بدايتها كما نهايتها في سريالية التظاهر والصراخ والاحتجاج الذي يمكن أن تتحاشاه الدولة العميقة بإعلامها المحترف المنحرف، القادر على التغني بآلام الشعب المصري وتلحين آهاته وجعلها أغاني وطنية تشنف بها آذان محلية وأخرى إقليمية متواطئة في المناسبات الوطنية للنظام.
ولعل استحالة الوقوع وعدم استشرافه لن تقنع الغرب بالكف والرضا، إذ حتى لو فكر في ذلك فذلك تأباه مصالحه ومصالح خليته السرطانية “إسرائيل”، وهي حقيقة لن يتوانى معها في بسط أوراق لعبه والترجيح فيما بينها في دائرة الجدوى والنفعية، هنا بالضبط يبتلى الشعب على حسب دينه، وقد أظهر أنه شعب متين الديانة، فلن يكون الابتلاء إلا إخراج ورقة الجوكر القوي، ورقة التدخل العسكري القادر بما يملكه من عدد وعدة وعقيدة على قلب موازين القوى لصالح ما تشتهيه سفن الغرب وقواربه من دول الخليج.
عندها لن يكتفي بالانحناء حتى تمر عاصفة الانقلاب بعد إعطاء الإشارة الخضراء لمرور العسكر على ركام جثث أبناء الشعب الرافضين لعودة أساليب القهر والتسلط، بل سيسعى إلى شرعنة هذا الانقلاب وتصريف جاهليته على كونها ترضية لإرادة شعب نفخ في كمه وكيفه بإخراج هوليودي يرفض أخونة الدولة أو أسلمتها بالاصطلاح الصحيح الصريح.
وهو في سعيه هذا لن ينسى أن يساوم بورقة الدعم المالي الذي تضخه صناديقه بكل جود وكرم ليس في جيب الشعب الفقير البئيس بل في أرصدة النخبة التي تحتاج لكي تحكم وتسود إلى “الملاءة المادية” سيما وأن الجوعى لا يمكنهم التفكير في السياسة، فالسياسة فكر وجياع البطون لا ينتجون فكرا ولا يستطيعون الوقوف طويلا أمام عربدة بلطجية النظام المدفوع لهم بالعملات الأجنبية.
ولن ينسى الغرب وهو يناور وحتى يلبس البندقية الثوب المدني دور الأحزاب التي بلا خبرها أيام مبارك وأنها لا تعدو أن تكون صنيعة الحكم الشمولي، صنعها باسم التعددية والتداول؛ حتى يوهم الشعب ومعه الشريك الغربي الذي يعلم حجم هذا الوهم بأنه نظام يؤمن بالديموقراطية ونظام الحكم الإفرنجي، وهو دور يمكن اختزاله وحصر فعله في التهويل من تهمة أخونة الدولة وإشاعة فكرة أن الثورة أسقطت استبدادا وأحلت مكانه استبدادا أقهر وأمر منه.
كل ذلك وزيادة في قالب إعلامي خادع يلتقي طابوره مع طابور الأحزاب في مرمى تخوين إسلامية الدولة ومساوئ الحكم التيوقراطي، حفاظا على ما راكمه كلا الطابورين من امتيازات ومكاسب على حساب دم المصريين على مر عقود.
والغريب المستغرب أن يعيد البعض من شرائح الشعب هذه اللقطة النجسة إلى جوفه بعد أن مجّها وكان أن تذوق مرارة طعمها، والأغرب أن يسير وراءها باسم أسماء “تمرد وإنقاذ” ليكون وقود انقلاب سيعيده لا محالة إلى جحيم قانون الطوارئ بل سيعيد إنتاج حكم عسكر لا يبقي ولا يذر، أعطته شعوب مزيفة تأشيرة العبور على جسر أشلاء الثوار الحقيقيين الذين راهنوا على كل شيء إلا على أن تسرق منهم ثورتهم ويكون السارق عسكر كان ملبسه ومشربه وماله وسلاحه من تحصيل حاصل الفقير البئيس القانع المعتر،شعب مصر الذي لا يملك إلا أن يقول لثورته كما قال أسلافه بغيا بغير علم لنبي الله موسى عليه السلام: }أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا{.