حكم ابن الجوزي
يُجمع الناس كلهم في صعيد، وينقسمون إلى شقي وسعيد، فقوم قد حلّ بهم الوعيد، وقوم قيامتهم نزهة وعيد، وكل عامل يغترف من مشربه.
كم نظرة تحلو في العاجلة، مرارتها لا تُـطاق في الآخرة، يا ابن أدم قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف رأي سخيف، فكم نظرة محتقرة زلت بها الأقدام.
يا طفل الهوى! متى يؤنس منك رشد، عينك مطلقة في الحرام، ولسانك مهمل في الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام.
أين ندمك على ذنوبك؟ أين حسرتك على عيوبك؟ إلى متى تؤذي بالذنب نفسك، وتضيع يومك تضييعك أمسك، لا مع الصادقين لك قدم، ولا مع التائبين لك ندم، هلاّ بسطت في الدجى يداً سائلة، وأجريت في السحر دموعاً سائلة.
تحب أولادك طبعاً فأحبب والديك شرعاً، وارع أصلاً أثمر فرعاً، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولاً وأخيرا، فتصدق عنهما إن كانا ميتين، واستغفر لهما واقض عنهما الدين.
من لك إذا ألمّ الألم، وسكن الصوت وتمكن الندم، ووقع الفوت، وأقبل لأخذ الروح ملك الموت، ونزلت منزلاً ليس بمسكون، فيا أسفاً لك كيف تكون، وأهوال القبر لا تطاق.
كأن القلوب ليست منا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، كم من وعيد يخرق الآذانا .. كأنما يُعنى به سوانا .. أصمّنا الإهمال بل أعمانا.
يا ابن آدم فرح الخطيئة اليوم قليل، وحزنها في غد طويل، ما دام المؤمن في نور التقوى، فهو يبصر طريق الهدى، فإذا أطبق ظلام الهوى عدم النور.
انتبه الحسن ليلة فبكى، فضج أهل الدار بالبكاء فسألوه عن حاله فقال: ذكرت ذنباً فبكيت! يا مريض الذنوب ما لك دواء كالبكاء.
يا من عمله بالنفاق مغشوش، تتزين للناس كما يُزين المنقوش، إنما يُنظر إلى الباطن لا إلى النقوش، فإذا هممت بالمعاصي فاذكر يوم النعوش، وكيف تُحمل إلى قبر بالجندل مفروش.
ألك عمل إذا وضع في الميزان زان؟ عملك قشر لا لب، واللب يُثقل الكفة لا القشر.
رحم الله أعظما ً نصبت في الطاعة وانتصبت، جنّ عليها الليل فلما تمكن وثبت، وكلما تذكرت جهنم رهبت وهربت، وكلما تذكرت ذنوبها ناحت عليها وندبت.
يا هذا لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولا مصيبة كموت القلب، ولا نذير أبلغ من الشيب.
درر وفوائد
العقود يرجع فيها إلى عرف الناس، فما عده الناس بيعاً أو إجارة أو هبة؛ كان بيعاً، أو إجارة، أو هبة، فإن هذه الأسماء ليس لها حدٌّ في اللغة والشرع، وكل اسم ليس له حد في اللغة والشرع؛ فإنه يرجع في حده إلى العرف، وأما بيع المغيبات في الأرض؛ كالجزر واللفت والقلقاس، فمذهب مالك أنه يجوز، وهو قول في مذهب أحمد، ومذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المعروف عنه؛ أنه لا يجوز، والأول أصح، وهو أنه يجوز بيعها، فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره دلهم ذلك على سائرها.
فتاوى ابن تيمية 29/227
لم يقل أحد من العلماء أن القراءة عند القبر أفضل، ومن قال: إنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها دون ما إذا بعد القارئ؛ فقوله هذا بدعـة باطلة مخالفة لإجماع العلماء، والميت بعد مـوته لا ينتفـع بأعمال يعملهـا هو بعـد الموت؛ لا من استمـاع ولا من قـراءة ولا غير ذلك باتفـاق المسلمين، وإنما ينتفـع بآثار ما عمـله في حياته.
فتاوى ابن تيمية 31/42
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن الصدقة والهدية أيهما أفضل؟ فأجاب: الحمد لله، الصدقة ما يعطى لوجه الله عبادة محضة من غير قصد في شخص معين ولا طلب غرض من جهته، لكن يوضع في مواضع الصدقة كأهل الحاجات، وأما الهدية فيقصد بها إكرام شخص معين، إما لمحبة، وإما لصداقة، وإما لطلب حاجة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، فلا يكون لأحد عليه منة ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم، وهي الصـدقات، ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره، وإذا تبين ذلك فالصـدقة أفضل إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل من الصدقة؛ مثل الإهـداء لرسـول الله صلى الله عليه وسلم في حياته محبة له، ومثل الإهـداء لقريب يصل به رحمه، وأخٌ له في الله، فهذا قد يكون أفضـل من الصـدقة.
فتاوى ابن تيمية 31/269