من زوايا النظر والإصلاح في المسألة التعليمية -ملامح إيجابية الأستاذ- ذ.عبد الرزاق المصلوحي

واضح أن مفردة الإيجابية تقابلها كلمة السلبية، بمعنى أن الأستاذ إذا لم يكن في حالة من الإيجابية الفاعلة البناءة، فإنه لا محالة يعيش السلبية السكونية، ويطبع حياته التعليمية بالضعف والعجز وقلة الكفاءة والفاعلية، فضلا على أن تكون له بصمة في حياة المتعلمين الذين هم بين يديه وتحت سمعه وبصره.
وهذه بعض ملامح الإيجابية، أضعها مرآة لكل أستاذ ولكل معلم وكل إنسان يمارس الرسالة التعليمية التربوية الإصلاحية:

1ـ من إيجابية الأستاذ الحب:
وأقصد به الإحساس الداخلي بالحب اتجاه المتعلمين والمادة والمؤسسة. فقلب الأستاذ يتسع لكل متعلم راغب في المعرفة، دون تمييز بين الذكور والإناث، أو الضعيف العاجز والمجتهد المتفوق، أو الغني والفقير. فالجميع أمام الأستاذ المعلم سواسية كأسنان المشط، يشملهم بحبه وعطفه ورحمته وحنانه. لا فضل لواحد على الآخر، إلا بالجد والمثابرة، والحرص والمصابرة، مما يقتضي التنويه والإطراء للمتفوق المتأدب من باب التحفيز والتشجيع، وليس من باب التمييز والتضييع، إذ ذلك يفتح باب الكراهية، ويولد الشحناء والبغضاء والعداوة في صفوف المتعلمين، وفي علاقتهم بأستاذهم، مما يسهم في التقاعس والتكاسل، وانقطاع العلاقة الديداكتية التواصلية. وكل متعلم يستشعر هذا الحب من أستاذه فإنه يبادله نفس الشعور أولا؛ ثم يقبل على مادته ثانيا.
ومن جهة ثانية ينبغي أن تكون المادة التي يدرسها الأستاذ داخل قلبه ووجدانه، يعشقها غاية العشق، ويحبها تمام الحب. فهو ابتداء اختار هذه المادة عن قناعة وكفاءة، ومحبة ورضى، فهي تجري في عروقه وتختلط بلحمه ودمه، وتملأ عليه كيانه وشعوره منذ كان طالبا متعلما. وهذا الحب للمادة خصوصا وللرسالة التعليمية عموما، ظاهر على عيون الأستاذ ولسانه وممارسته اليومية للعملية التعليمية التعلمية، كل ذلك يفجر ينابيع الحب لمادته من قلبه لقلوب متعلميه، ومن روحه لأرواحهم فيرتوون من مادته ويقبلون على درسه، وينشطون ويتفاعلون في وسط قسمه بكل حب واجتهاد وصدق وإخلاص. وبمثل هذا الحب يغدوا القسم حيا متحركا بحرارة الحب وشعلة الاجتهاد، وإلا ظل ساكنا راكدا نائما بالكسل والكره للمادة أو متحركا سلبا بالضجيج والعجيج والصخب والصراخ.
ومن جهة ثالثة يكون الحب دافعا للأستاذ ومحركا له نحو تطوير أساليبه التعليمية، ومواكبة التغيرات والتقنيات الحديثة، والمناهج التعليمية الجديدة. فهو دائما يضيف لمسة جديدة على طرق تدريسه، تكسبه مزيد احترام ومزيد إقبال من متعلميه. فليكن إذن الحب أول خطوة تخطوها أيها الأستاذ نحو مؤسستك لأداء رسالتك المهنية، وربط علاقتك التواصلية. فالحب يجعل قسمك جنة وسعادة، وحياتك متعة وزيادة.

2ـ من إيجابية الأستاذ الشعور بالقدرة على إحداث تغيير في المتعلم:
إذ التعلم إحداث تغيير إيجابي في المتعلم، من خلال تفجير مؤهلاته، وكشف مواهبه وطاقاته، وتوجيه كل قدراته العقلية والنفسية والبدنية والروحية بالتدرج نحو الأحسن والأفضل ونحو اكتساب مهارات مختلفة وكفايات متنوعة.
فالأستاذ الذي يجد من نفسه ويستشعر من ذاته تلك القدرة التغييرية التأثيرية في المتعلم قادر على النجاح والتفوق في رسالته، قادر على تجاوز الحالة الراهنة للتعليم، قادر على التحدي للظروف المعيقة المحيطة به، لأنه يعتبرها ثانوية أمام مهمته الأساسية المتمثلة في العطاء وحسن الأداء.
وكل أستاذ لا يستشعر من نفسه هذه القدرة على التأثير الإيجابي في المتعلم تكون مخرجاته التعليمية ضعيفة ونتائجه سلبية. أما الأستاذ الإيجابي فإنه يتابع خطواته التعليمية، ويلاحظ أثره التغييري وفعله التعليمي وأداءه التربوي على سلوك المتعلم وعلى مختلف جوانب شخصيته النامية، خلال السيرورة التعليمية وفي ختام السنة الدراسية يحصد نتائج عمله الطيبة.

3ـ من إيجابية الأستاذ الجاهزية للعطاء: النابعة من إيمانه برسالته السامية، فينظر الأستاذ إلى وظيفته التعليمية، كرسالة تربوية وليس كحوالة مالية يتقاضاها عند نهاية كل شهر، فلا يتوقف عند قلة أجرته، ولا كثرة مشاكله، ولا تكاليف معيشته، إنما يجعل محور تفكيره هو المتعلم، وسبل تكوينه وبنائه، ويجعل جوهر قضيته المسألة التعليمية وسبل النهوض والرقي بقطاع التعليم وكيفية تطويره وتحسين مردوديته وجودته.
فالأستاذ الجاهز للعطاء أستاذ إيجابي، متمكن من مادته، عنده ما يقدمه لمتعلميه، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، الأستاذ الجاهز للعطاء والمستعد للعمل يعتبر نفسه واحدا من فريق القسم يتفاعل ويتواصل معه، ويتواضع ويمرر مادته بأسلوب سهل مشوق ميسر، حتى أنك تجد المتعلمين أنفسهم في مرح وسعادة ونشاط واستفادة.

4ـ من إيجابية الأستاذ القدرة على التحكم في العواطف والأعصاب:
وعدم الاندفاع نحو استفزازات المتعلمين المشاغبين والاضطراب والتوتر لكسل المتكاسلين، بل يحسن التعامل مع تعثرات المتعثرين وشغب المشاغبين، بكشف وتشخيص التعثر، وطرح العلاج المناسب له، واحتواء الشغب وتصريفه في المجرى المناسب له بلا عنف ولا تعصب ولا عدوان.
فالتحكم والسيطرة على عواطف النفس وعواصف القسم وأعصاب الذات، ما هو إلا قدرة نفسية عقلية على حسن إدارة القسم في ظروفه الحسنة والخشنة، قدرة على حسن التعامل مع كل ظروف الحياة وطوارئ الأحداث والمواقف، في المؤسسة والأسرة، في المجتمع والقسم والبيت.
فالأستاذ الإيجابي يرتدي لكل حالة لباسها، ويتعامل مع كل ظرف وموقف باستقلالية، لأنه ليس من الإيجابية في شيء أن يحمل الأستاذ هموم أسرته وأولاده إلى قسمه، ولا أن يحمل مشاكل الإدارة والمؤسسة إلى بيته. فالأداء الجيد يتطلب أستاذا في أحسن أحواله وأعلى درجات الجاهزية النفسية والمهنية والبدنية.
من هنا يكون الأستاذ المتحكم في أعصابه وعواطفه، منضبط النفس والمزاج أولا، وذو توظيف جيد لكفاءته المهنية ثانيا؛ مما يمكنه أن يكون في مستوى الاحترافية؛ كما أن المتعلم يلاحظ ذلك، ويطمئن إلى المادة من جهة كفاءة الأستاذ وتوفر شروط التعلم، أما الأستاذ السلبي العصبي فإنه يترك مساحات وفراغات لشغب المشاغبين، حتى يتحول القسم إلى ساحة لعب، ويصير سوقا بالصخب، وحماما بالضجيج، فتزداد معاناة الأستاذ وتزداد زياراته للطبيب النفسي، ويزداد معه ضعف المتعلم وتراجع التعليم.

5ـ من إيجابية الأستاذ التخطيط المسبق للدرس:
لأن الأستاذ الذي يأتي إلى القسم ولم يهيئ درسه أو يهيئه بارتجالية وسرعة وبدون إتقان، والذي يقدم درسه بصورة سطحية متسرعة منتظرا ساعة الخروج، هو أستاذ غير منخرط بجدية في درسه، غير مستشعر لمسؤوليته وأمانته، ولا ينبض قلبه بحب المادة والمؤسسة والمتعلم، ولا يحترق لهمّ الرسالة التعليمية التربوية، فالتخطيط فيه تفكير مسبق في المادة والمتعلم، فيه عيش وحياة مع أجواء القسم قبل دخول القسم؛ وفيه تقليل للجهد وحسن توظيف لطاقات وقدرات الأستاذ المخطط مع روعة تدبير للوقت.

6ـ من إيجابية الأستاذ تنظيم الوقت والانضباط معه: فلا يتأخر عن موعد الدخول ولا يتسرع بالخروج، إنما تجده في القسم قبل الموعد بدقائق، يستعد لاستقبال أحبّاء قلبه، وفلذات كبده، ويتهيأ لأداء أشرف عمل وأنبل مهمّة.
واحترام الوقت هو احترام للمتعلم ابتداء، فكيف يعقل من أستاذ يعاتب متعلمه على تأخره، ولا يحاسب نفسه عندما يتأخر أو يتغيب؛ فاحترام الوقت واجب ومسؤولية أمام الله تعالى، وأمانة اتجاه الوطن، وتضييع دقيقة واحدة من زمن التمدرس ضياع لحق المتعلم وإهمال لواجب الوقت؛ فالأستاذ المنضبط مع الوقت يربي بالقدوة والعمل التطبيقي متعلميه على احترام الوقت عند الدخول والخروج، فيكتسب المتعلم مهارة إدارة الوقت وحسن استغلاله؛ خصوصا أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

7ـ من إيجابية الأستاذ روح المبادرة:
“بادر فأنت قادر” ما أجمله من شعار لو تمّ تفعيله، فروح المبادرة والسبق نحو الأفكار الجديدة، والإبداع للأساليب الجديدة من شأنه تحسين مردودية الأستاذ وجودة أدائه وفعله التربوي، كما يشوق المتعلمين ويدفعهم للإقبال على العملية التعليمية التعلمية.
فالأستاذ الإيجابي المبادر لا يكتفي بالموجود وإنما دائم التفكير في المفقود، دائم المبادرة في خلق فضاءات جديدة وأنشطة موازية مدعمة، دائم المفاجآت للمتعلمين بالجديد، حتى يربي في متعلميه روح المبادرة والاكتشاف والابتكار والإبداع.

8ـ من إيجابية الأستاذ القدرة على التواصل:
وخلق أجواء الحوار والتفاعل مع الإدارة التربوية وأساتذة المادة ومع المتعلمين خصوصا، لأنهم محور العملية، فوجود جو مناسب للحوار والنقاش وإبداء الرأي والتعبير عن الذات، دليل على قدرة الأستاذ المعلم على التواصل الإيجابي والتحاور المثمر، وحافز دافع نحو المشاركة والنقاش داخل القسم، بسبب شعور المتعلمين بالأمان والاطمئنان، فيعبرون عن رأيهم بكل حرية بلا خوف ولا اضطراب، فالتواصل موجود، والنقاش دائري والحوار شامل للجميع، والأستاذ يكتفي بإدارته وفسح المجال من غير استبداد ولا إكراه ولا تعنيف؛ وتجدر الإشارة إلى أن الحوار ليس هو تقديم النصائح ودروس المواعظ، ولا طرح التساؤلات فحسب، إنما هو فضاء لإبداء الرأي والتعبير عن الذات والمشاركة الإيجابية في بناء الدرس وإقامة شخصية المتعلم.

9ـ من إيجابية الأستاذ احترام المتعلم:
فإهانة المتعلم والتنقيص من كرامته وإذلاله من خلال وصفه بأوصاف الحيوانات والحشرات، ومن خلال سبّه وسبّ أسرته ودينه ووطنه، كل ذلك يولد الكراهية والعداوة والعنف بين أطراف العملية التعليمية التعلمية، خصوصا وأن العنف من أسبابه تجاوز الحدود والمساحات، بكسر حاجز الاحترام وحفظ الكرامة.
فالأستاذ الإيجابي يحترم متعلميه، ويحفظ كرامتهم، بعدم السب أو الضرب أو الصراخ في وجهوهم، كما يكون بترك النقد والعتاب للمتعلم أمام أخيه، فهو لا يحب أن ينتقده أحد مع وجود أصدقائه، لأن ذلك يجرح مشاعره ويمس كرامته، وإنما التوجيه يكون ثنائيا صادقا غير صادم لمشاعره وأحاسيسه؛ وكل ذلك يساعد المتعلم على الشعور بالأمان والثقة في أستاذه، كما يحمله المسؤولية ويبني في نفسه الانتماء لمؤسسته وقسمه، فتجد المتعلم يرفع شعارات الاعتزاز والفخر والحب اتجاه قسمه ومؤسسته.

10ـ من إيجابية الأستاذ البسمة الصادقة:
المتواصلة في وجوه متعلميه، والبشر وطلاقة الوجه ودوام البشاشة والبساطة، من خلال السهولة في التعامل، والليونة في الطبع والرقة في الكلمات، والتجاوز عن الهفوات، والرحابة في الصدر واتساع الخاطر، وجماع ذلك كله الأدب وحسن الخلق. مما يؤثر في المتعلمين بلسان الحال أكثر من لسان المقال، وهنا تبرز قيمة القدوة والنموذج الحسن أمام المتعلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا.

خاتمة:
تلك بعض ملامح الإيجابية في حياة الأستاذ التربوية، تشكل أخلاقيات الأستاذ الإيجابي الناجح، الذي يتحرك داخل قسمه بروح عالية، وخطوات بانية، وقلبه مطمئن إلى توفيق الله تعالى وتأييده، ينظر إلى المستقبل المشرق الزاهر من خلال أدائه الجيد وعمله المتقن؛ أما إذا كان هذا الأستاذ سلبيا مفرطا، غير آبه بالأمانة ولا مستشعر للمسؤولية، فإنه ممن يقال في حقه: “من هنا يأتي الخلل، من هنا يكون الفشل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *