“د.بولوز”1 : تعريض “عيوش” بالكتاتيب القرآنية لم يأت عبثا و”عصيد” لم يطلع على مقررات التربية الإسلامية في البرامج التعليمية حاوره: نبيل غزال

1- تقدم نور الدين عيوش، رئيس جمعية زاكورة للقروض الصغرى والتربية، إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتعليم، عمر عزيمان، بوثيقة 2 تتضمن توصيات تدعو إلى اعتماد اللغة الدارجة بدل العربية الفصحى بالمنظومة التعليمية، واعتبر عيوش أن اللغة الأم الأساسية في المغرب “هي الدارجة، وأكثر من 90 في المائة من المغاربة يتحدثونها”، وشدد على أن “نجعل هذه اللغة الأم أساسا في المراحل الأولى لتعليم أطفالنا.” فما تقييمكم لهذه الوثيقة ولهذا المطلب؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
تستهدفُ دعوات اعتماد العامية واللسان الدارج والتي يطلقها عيوش ومن على شاكلته من المتغربين والفرنكفونيين قطعَ لسان المغرب الأصيل، والكيد للغته التاريخية والحضارية، وقطع تواصله مع جذوره وقيمه، ومع أمته من أقطار ممتدة في العالم العربي، بل وحتى أقطار إسلامية أو على الأقل نخبها من علماء الشرع فيها. إذ غالبا ما تكون اللغة التي تعمقوا بسببها في معرفة دينهم هي العربية، ولهذا تحارب العربية باعتبارها وعاء للهوية الدينية للمغاربة، ولسان وحي ربهم، وهي الحاملة لتاريخهم وأمجادهم، والضامنة لتواصل أجيالهم وتواصيهم بالمبادئ المشتركة عبر الزمن المغربي الممتد إلى عهد طارق والمولى إدريس ويوسف بن تاشفين وغيرهم من السلف الصالح للمغاربة.
وتأتي هذه الخرجة النشاز من عيوش لتنضاف للكيد الذي تتعرض له العربية من زمان غير يسير، وهي نغمة قديمة متجددة عرفتها العديد من البلاد العربية كلبنان ومصر والعراق وغيرها وهذه النغمة في بلادنا استمرار لتعطيل مقترحات النهوض بالعربية والوارد ذكرها في ميثاق التربية والتكوين، واستمرار أيضا لإيقاف مسلسل التعريب، وتعطيل إخراج أكاديمية اللغة العربية، وتعطيل لمنشور الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي الخاص بالعربية في الإدارة المغربية.. وإعلاء لشأن اللغة الفرنسية باعتماد ما يسمى بالباكالوريا الدولية، والتطبيق الفعلي لإزاحة العربية الفصحى من العديد من المواقع التي كانت فيها إلى عهد قريب، وإحلال العامية مكانها في نشرات الأخبار في العديد من المنابر الإعلامية، وكذا مختلف البرامج ومواد الإشهار والإعلانات التجارية…

2- أشار رئيس مؤسسة زاكورة في الوثيقة نفسها إلى أن “التعليم الأولي في مجمله تقليدي” و”يقتصر على الكتاتيب وبعض الأمور المشابهة، وأنه لا يجب أن يبقى دينيا فقط، بل على أطفالنا أن يتعلموا الحياة ويغنوا وينشطوا ولا نوجههم إلى الحفظ فقط”.
فهل التعليم الأولي في بلدنا يقتصر فعلا على الكتاتيب القرآنية كما قال الأستاذ عيوش؟ وبمقابل ذلك هل يحرم من انخرط في هذا النوع من التعليم من الاستمتاع واللعب والمرح في هذه المرحلة المهمة من حياتهم؟
التعريض بالكتاتيب القرآنية في المراحل الأولى لتعليم التلاميذ لم يأت عبثا في مطالب عيوش والأقلية التي يزعم تمثيلها، فهي الخطوات الأولى لتعلم الدين وهي التي يبنى عليها ما سيتلوها في مراحل أخرى من فهم الدين وترسيخ أحكامه وآدابه وتشريعاته وتصوراته ومفاهيمه، ويفضح إدراج هذا الأمر في المطالب سر الهجوم على اللغة العربية الفصحى باعتبارها وسيلة فهم الدين وتقوية رابطة المجتمع المغربي بالركن الأساسي في هويته.
ولا نقول نحن إن طرق التدريس كلها سليمة في تعليمنا الأولي بل هي في حاجة إلى تطوير وعناية بأطرها ماديا وتربويا وحسن تكوينهم وتأهيلهم للتعامل مع مستويات الأطفال العمرية والنفسية، وما يجري في معظم الكتاتيب ليس هو حفظ القرآن الكريم وحده وإنما يكون معه في الغالب الأعم: تعليم الحروف والكتابة، ومبادئ أولية في الحساب، وحتى أناشيد ومحفوظات، وتكون فيه فترات استراحة ولعب، ويظهر ذلك جليا فيما يشبه رياض الأطفال والتي تمزج بين تلك الأشياء جميعا، وأما بخصوص الحفظ فليس كل ما يقال بشأنه سليم.
والحفظ خاصية إسلامية لا يجوز التفريط فيها، وقد كان ملازما للمتعلمين في الأمة منذ الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس بن مالك رضي اله عنه قال: (كنا نقعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن يكون ستين رجلا يعني فيحدثنا بالحديث ثم يدخل لحاجته فنتراجعه بيننا هذا ثم هذا فنقوم وكأنما زرع في قلوبنا).
فكان من البديهيات عند المسلمين حفظ القرآن كاملا قبل الجلوس إلى العلم. وسيرة العلماء والمجتهدين تبين ذلك، بل الواقع التاريخي إلى عهد قريب يثبت هذه الحقيقة، وكان جملة من العلماء لا يقبلون الأطفال في حلقاتهم حتى يسألونهم عن كتاب الله عز وجل، وكان المجتهدون في عمومهم حفاظا.
والعناية بالحفظ بطبيعة الحال لا يعني أبدا إهمال مهارات الفهم والتحليل والتركيب والاستنتاج ونحو ذلك فالجمع ممكن كما عشناه في فترات متميزة من تاريخنا.

3- ما تقييمك لدعوات “عيوش” وكيف ترون مواجهتها؟
الرجل يقدم نفسه مصلحا اجتماعيا ويبادر لإصدار مذكرات إلى أهل القرار في البلاد في أمر يهم السواد الأعظم من المغاربة في شأن لغتهم ودينهم ويريد فرض رؤية ما يمكن نعته بحزب فرنسا الخفي الظاهر، وإلزام المغاربة بذوق النخبة المتغربة التي تدرك جيدا أن الرابح في مثل هذه المشاريع المشبوهة من تشجيع اللهجات المحلية هو اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية والتبعية لفرنسا.
فلا بد من الوعي العميق والحذر الشديد من مثل هذه النزعات الشاذة والمتطرفة التي تريد إشغال البلاد عن معاركها الحقيقية، وقطع الطريق عليها بالعناية بعملية البناء في ترسيخ لغة القرآن وحب العربية وأداء حقوق الكتاب العزيز إيمانا به ونشرا لتلاوته وحفظه في مختلف الأوساط بما في ذلك المراحل الأولى للتنشئة الاجتماعية في الأسرة والكتاتيب والروضة والمدرسة لأهمية تلك المراحل في تكوين الشخصية ووصم حياة الإنسان في مراحله اللاحقة.
ولن يكون بحول الله مصير أمثال هذه الدعوات بأحسن حالا من مصير دعوات سلامة موسى وأضرابه في مصر وخارجها، وكما بقيت مصر ولبنان والعراق وغيرها عربية وإسلامية في عمومها فكذلك الشأن في بلادنا بحول الله وقوته ثم بجهود المخلصين من أبناء هذا الوطن.

4- مرة أخرى هاجم “عصيد” مقررات التعليم؛ وادعى أن (تلقين القيم التقليدية لا يدع للمتمدرس أية فرصة لفهم القيم المعاصرة أو استيعابها أو التعاطف معها، لأن طبيعة القيم التقليدية التي تلقن والطريقة التي تلقن بها والتي ما زالت في غاية من التخلف تقدم القيم المعاصرة على أنها تمثل قيما غربية كليا ولا علاقة لها بـ”تقاليدنا العريقة”، بل تعمل بشكل سافر على تنفير التلاميذ والمتمدرسين منها كما لو أنها على النقيض التام مع قيم الأصالة، وتخلق بذلك حربا يومية ضد حقوق الإنسان وضد العصر وضد العلم بمعناه الحديث) 3.
فهل المقررات الدراسية تحمل فعلا هذا الكم الهائل من القيم التقليدية كما سماها “عصيد”، أم أن الأمر مجرد تهويل وتبرير للفشل في نقل القيم العلمانية وتطبيعها في المجتمع؟
هذا كلام من لم يطلع على مقررات التربية الإسلامية في برامجنا التعليمية، أو هو زعم من لا يريد الاعتراف والإقرار بما عرفته من تطورات مهمة على مستوى المضمون والمنهج، فهي حافلة في مختلف مراحلها بمختلف القيم الإيجابية والوحدات التي تربط المتعلم بمحيطه، فبالإضافة إلى وحدات التربية الاعتقادية والتربية التعبدية هناك وحدات:
التربية العقلية والمنهجية، والتربية الاقتصادية والمالية، والتربية الأسرية والاجتماعية، والتربية الصحية والوقائية، والتربية التواصلية والإعلامية، والتربية الحقوقية، والتربية الفنية والجمالية.
وربما هذا التحول في مادة التربية الإسلامية من جهة المضمون والمنهج والشكل هو ما أضحى يزعج أمثال عصيد حيث تكون تلك الأنشطة والمواضيع مناسبة لمناقشة قيم الآخر في المجالات المنهجية أو الحقوقية والاجتماعية أو الفنية والجمالية.. ونحو ذلك، فتتم تزكية ما يناسب ميزان الدين وأخذ الحكمة الإنسانية من أي وعاء خرجت، ورفض ما يعارض قيمنا ويخالف روح حضارتنا*.

——————–
1 – أستاذ التعليم العالي ومُكوِّن بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين وعضو المكتب الوطني للجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية.
2 – وثيقة رسمية صادرة عن ندوة دولية نظمتها مؤسسة زاكورة للقروض الصغرى والتربية يومي 4 و5 اكتوبر الماضي.
3 – حوار مع يومية الأحداث بتاريخ 28/10/2013.
*- ينظر الاستجواب كاملا على موقع هوية بريس: http://howiyapress.com/index.php/ein3la7date/1976-1386.html

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *