كلمة «الاحتقلال» التي عَنْوَنَّا بها هذا المقال هي من صياغة البطلِ الريفي المجاهدِ محمد بن عبد الكريم الخطابي، كلمةٌ مركبة تركيباً مزْجيّاً من «الاحتلال» و«الاستقلال».
فهي بتركيبتِها وغرابَتها تدل على شك الخطابي في حقيقة ما حصَّل عليه المغاربة المفاوضون في «إيكس ليبان»، وتَدلُّ على إنكار الخطابي لاستحواذ الحزب الوحيد -الفارضِ وحدانيتَه بالعنف-، على حد تعبير الحاج أحمد معنينو رحمه الله.
فهذا الاحتقلال الناقص الذي حصل عليه المغرب بعد التشاور مع جماعة حزب الاستقلال، وجماعة المحايدين المعتدلين، وجماعة ابن عرفة، وجماعة العلماء، وجماعة الشوريين، وجماعة اليهود، وجماعة المستعمرين الفرنسيين، ووفد الحكومة الفرنسية، والاتفاق الذي وقع عليه وفد حزب الاستقلال المفاوض كان يقضي بضمان استقلال المغرب داخل الاستعمار، أو ما كان الفرنسيون يسمونه آنذاك «الاستقلال داخل التبعية»، استقلال يضمن مصالح فرنسا في المغرب لمدة مائة عام كما صرح بذلك أحد المؤرخين، استقلال مغرب منزوع الصحراء وموريتانيا والصحراء الشرقية، استقلال خيب آمال العلماء والوطنيين والمخلصين لوحدة هذا الوطن من شنقيط إلى طنجة ومن توات إلى المحيط، استقلال أطلق فيه الموقعون على اتفاقه رصاصة الرحمة على الشريعة الإسلامية وأداروا لها ظهورهم حتى يرضى عليهم «إدجار فور» وحلفه.
إن هذا الاحتقلال الذي حصل عليه المغرب أفرزته مشاورات «إيكس ليبان» الذي كان سببها الأهم في قبول فرنسا المفاوضات -حسب كل المؤرخين- هو رغبتها في تقويض مخطط مكتب المغرب العربي بقيادة عبد الكريم الخطابي الذي فرَّ من قبضة الفرنسيين عندما رست السفينة التي كان محتجزا على متنها في «بور سعيد»، واستقر في القاهرة بالديار المصرية، وهناك حرر «ميثاق 47» الذي نص بنده الثاني على ضرورة مواصلة الكفاح حتى تحرير المغرب العربي الكبير.
إن الموافقة على هذا الاحتقلال خيانة ثانية لأمة المغرب العربي الكبير بعد خيانة تونس ويقول الخطابي عن هذا الخذلان: «أليست مفاوضة إيكْسْ ليبان (بين الوطنين المغاربة وفرنسا) واتفاقيةَ جي مولي-بورقيبة (في مفاوضات استقلال تونس) هي التي كانت في حقيقتها مؤامرةَ القضاء على البلاد، نجح فيها العدو وعملاؤه بتخدير الشعب التونسي والمراكشي حتى يطمئن للاستقلال المزيّف، هذا الاستقلال الفارغ الذي يجب أن نطلق عليه «الاحتقلال».
وبعد هذه الخيانة للأمة المغربية يأتي الدور على تنفيذ المخطط الاحتقلالي للتخلص من كل أعداء فرنسا في المغرب الذين يطالبون بالتخلص من تركة الاحتلال الفرنسي بصفة نهائية فشيدت مراكز التعذيب في الضيعات والكهوف والغابات لتصفية رجال جيش التحرير والوطنيين الرافضين للاحتقلال الناقص الأطراف الملتبس المعالم.
يقول الخطابي في رسالته للوزاني: «والغريب أن جل هذه الضحايا كانت في مقدمة العاملين الذين ساهموا بنصيب وافر في الجهاد ضد الاستعمار، ومن أجل تحرير البلاد من الاستعباد، وأخيراً كان جزاؤُهم «جزاءَ سِنمَّارَ»، ومن الغريب أيضا أن نرى الآن المسؤولين تجاهلوا حلّ هذه المشكلة التي تعتَبرُ من أهم المشاكل التي تحقق الاستقرار، وتُوَطِّدُ الأمن».
إلى أن يختم رسالته بتذكيره للوزاني: «باستئناف الجهاد والنضال حتى تُطرد الجيوش الفرنسية المعتدية على بلادنا، فسيروا على بركة الله، وشجعوا العاملين في هذا السبيل».
لكنّ جيش التحرير الذي كان يعلق على جهاده الآمال، ما لبث أنْ تمّ احتواؤُه وحلُّ نظامه وإخماد جذوته، وتصفية عناصره بالترغيب والترهيب، وخلى الجو لأبناء فرنسا ليفعلوا في البلاد ما تمليه عليهم حكومتهم الفرنسية.