وفقا للرواية الرسمية التي عمل على ترويجها إعلام الإليزيه والأبواق الموالية له بمحتواها، المحسوبة علينا بمسماها، فإن ثلاثة ملثمين، وفي رواية أخرى اثنان! مسلحان برشاشين وقاذفة صواريخ، اقتحما مقر صحيفة «شارلي إيبدو» صاحبة السجل الأسود في التهجم على الأديان، والإساءة إلى الأنبياء ولاسيما نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فقتلا عشرة صحفيين ورسامي كاريكاتير كانوا بالمقر، قبل أن يرفعا العدد إلى اثني عشر بقتل شرطيين كانا بالشارع حيث مقر الصحيفة؛ ويُظهر أحد المقاطع المرئية للحادث لحظة إجهاز أحد المهاجمين على شرطي مصاب، حيث اقترب منه وأطلق على رأسه رصاصة من رشاش «كلاشنكوف»، دون أن تتطاير أية قطرات دم من رأس الشرطي، فضلا عن أن ينفجر دماغه كما هو متوقع ومعروف عن طلقات السلاح الروسي الشهير!
مشاهد أخرى يظهر فيها بعض المتفرجين الذين تابعوا أطوار الهجوم من على سطح إحدى البنايات المحاذية لمقر الصحيفة، وفي المشاهد رجل يرتدي سترة واقية من الرصاص، اختار في هذا اليوم تحديدا أن يرتديها، أو ربما هو يرتديها دائما، من يدري!
الهجوم الذي تم بطريقة أفلام الأكشن لم يدم -دائما بحسب الرواية الرسمية- سوى خمس دقائق، لينسحب المهاجمان بسلاسة وسط شوارع باريس، قبل أن تعثر الشرطة على السيارة التي استقلاها، وبداخلها بطاقة هوية لأحد المهاجمين، حيث أنها «سقطت» منه دون أن يشعر.
بدأت التحقيقات و«تبين» أن المهاجمين هما «الأخوان شريف وسعيد كواشي، شابان مسلمان تلقى أحدهما تدريبا على القتال في أحد معسكرات تنظيم القاعدة باليمن»؛ وقبل انتهاء التحقيق قيل بأن ضابطا في فريق التحري اسمه «إرليك فريدو» قد «انتحر»، مما فتح باب التساؤلات مشرعا لدى جل المتابعين، لاسيما مع تشكيك كثيرين في رواية الإليزيه التي رأوها ضعيفة وتبعث على الريبة، وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك فاعتبروا الهجوم مدبرا من جهات صهيونية كرد من تل أبيب على اعتراف باريس بالدولة الفلسطينية، وأن الحادث لا يخرج عن كونه محاولة صهيونية للعب على عدة حبال، ورمي عدة عصافير بحجر واحد، والهدف الرئيس مرة أخرى تثبيت وسم الإرهاب على جبين كل مسلم، غير أنها كانت مسرحية سيئة الإخراج.
إن ما لا ينبغي الاختلاف بشأنه أننا نعيش في عالم يشهد مواجهة حضارية بين معسكرين، وأن في الاثنين معتدلين ومتطرفين، دون أن نغفل الصيرورة التاريخية والتراكمات الثقافية التي ألقت بظلالها على أفعال وردود أفعال المنتسبين إلى الفريقين، والتي تخبرنا سجلاتها بالأرقام والزمان والمكان أن رياح الإرهاب غربية المنشأ، صليبية النكهة، يهودية البصمة؛ فلا مجال لمزايدات الغرب اليوم كما بالأمس، ولا حق لأرباب الإجرام ومرتكبي المذابح في أن يحدثونا عن قيم التسامح والتعايش ورحمة المستضعفين، مادام مجموع ما قتل المسلمون في كل معاركهم منذ بعثة نبي الرحمة إلى الآن لا يصل إلى عدد الهنود الحمر الذين ذبحتهم جيوش أوربا في سنوات معدودات إبان غزوها واحتلالها القائم إلى اليوم لأمريكا الشمالية لوحدها.
أما شعوب أستراليا، وفيتنام، واليابان، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا، والبوسنة، وأفغانستان، والعراق، ومالي، وإفريقيا الوسطى، فلكل واحدة منها أفلام رعب لعب الرجل الأبيض دور البطولة فيها جميعا؛ واليوم، وبكل صفاقة يتشدق أحفاد أولئك السفاحين بقيم الحرية وحقوق الإنسان! أيها المنافقون، تاريخكم الدموي لا يسعفكم، وحاضركم الذي لا يقل سوادا يدحض مزاعمكم الواهية..
أيها المتاجرون بدماء وخيرات الشعوب، تهمة الإرهاب ثابتة عليكم بشواهد التاريخ والجغرافيا، فكيف تجرؤون بعد كل هذا على نعت المسلمين بالإرهاب؟ بل كيف لكم أن تحدثونا عن الإرهاب وجيوشكم الآن وعلى المباشر مازالت تستبيح دولا إسلامية كثيرة، وتعيث فيها قتلا وتدميرا؟
إن الإرهاب صناعتكم، فأنتم من زرعتم بذوره بكل هذه الفظائع التي اقترفتموها ومازلتم بحق شعوب لم تسئ إليكم؛ وأنتم من أنشأتم الدولة الصهيونية الإرهابية على أنقاض فلسطين وأشلاء أبنائها، وتستمرون إلى اليوم في دعمها في مجلس أمنكم، وتحمون وجودها الباطل بقرارات أممكم المتحدة المتفقة على إرهابنا وتدميرنا، فلتخرس ألسنتكم عن نعتنا بالإرهاب، ولتكفوا عن الصراخ حين تذوقون من كأس الإرهاب الذي أشرفتم على صناعته وتطويره منذ قرون.
فهل يعي هذه الأبعاد أولئك الانهزاميون والمستلبون الذين صاحوا بصوت واحد «كلنا شارلي»؟!
وهل يدركون أنهم باصطفافهم مع باريس يؤكدون تبعيتهم لإحدى الدول الصانعة للإرهاب العابر للقارات؟
أليس كل هذا الشجب والإدانة للحادث في مقابل التزام صمت مطبق ولا مبالاة تامة، تجاه مآسي الأمة في سورية وغيرها، إلا دليلا على شيزوفرينية مثيرة للشفقة؟
ولكنه تقاطع المصالح، وتوحد الأهداف لدى «وليدات فرنسا» مع سياسات هذه الأخيرة؛ وفي هذا الإطار فقط وحصريا يمكن أن نفهم هرولتهم المضحكة والمخزية في آن واحد، والتي يعبرون بها عن تضامنهم اللا مشروط مع صحيفة «شارلي إيبدو» الممقوتة حتى لدى عقلاء الغرب، بيد أننا نقرأ في هذا الانبطاح دلالات أخرى، ليس أقلها الرضى الضمني بالخط التحريري للصحيفة، وهو ما لا يخفيه كثيرون من أتباع هذا التيار الطفيلي الذي يمارس «النضال الخبزاوي» في أبهى صورة، ويحاول عبثا ضرب عدو لدود هو الإسلام، الذي يقف سدا منيعا يُفَوت على عصابة الارتزاق تسريب قذارات الغرب الثقافية والاجتماعية إلى البيئة الإسلامية.
انتهت إذاً مسرحية «شارلي إيبدو» سيئة الإخراج، وقاد اﻹرهابي النتن ياهو مسيرة التنديد باﻹخراج السيء، وعادت شارلي إلى عادتها القديمة، وعادت بيادق فرنسا إلى رقعة الوطن، لتأخذ مواقعها استعدادا للتحريك القادم في مسرحية جديدة نأمل أن يكون إخراجها أكثر احترافية وإقناعا كي نشاركهم الإدانة.