رصدٌ لألفاظ إسلامية في كتاب “المزهر” للعلامة السّيوطي تـ: 911هـ محمد حماني

ترومُ هذه الكلمةُ الوقوفَ عند بعض الألفاظ التي استُحدثت في صدر الإسلام، وبعض الألفاظ التي أُفرغت من دلالتها التي كانت عليها في العصر الجاهلي (سُمِّي جاهلياً؛ لأن أهله لم يكونوا على دين محدد، لا من الجهل، وقيل: إن الجاهلة اسمٌ حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة) وأُعطيت دلالةً أخرى، أو نُقلت من اللغة إلى الاصطلاح، أو من اللغة إلى الشرع؛ وذلك من خلال كتاب: “المزهر في علوم اللغة وأنواعها”، لجلال الدين السّيوطي (تـ: 911هـ)؛ وقد شرح الكتابَ وعلّق عليه: محمد أبو الفضل إبراهيم، محمد جاد المولى بك، وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.
ويقع الكتابُ في جزأين، وهو كتاب في اللغة، جعله مؤلِّفُه في خمسين نوعا: ثمانية في اللغة من حيثُ الإسنادُ، وثلاثة عشر من حيث الألفاظُ، وثلاثة عشر من حيث المعنَى، وخمسةٌ من حيث لطائفُها وملحُها، وواحدٌ راجعٌ إلى حفظ اللغة وضبط مفاريدها، وثمانيةٌ راجعةٌ إلى حال اللغة ورواتها، ونوع لمعرفة الشعر والشعراء، والأخير لمعرفة أغلاط العرب.
أَوَّلاً: مسارُ ألفاظ من اللغة إلى الشرع:
يقول الحافظ جلال الدين السّيوطي، في ما نقله عن أحمد بن فارس (تـ: 395هـ)، في “الصاحبي في فقه اللغة وسَنَنِ العرب في كلامها”: “كان العرب في جاهليتها على إرثٍ إرثِ آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى أخرى، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت، فعفّى الآخرُ الأول”(1).
ومن هذه الألفاظ:
– اَلْصَّلاَةُ: قال العلامة السيوطي: “ومما جاء في الشرع: الصلاة، وأصله في لغتهم (يقصد العرب في جاهليتها) الدعاء، وقد كانوا يعرفون الركوع والسجود، وإن لم يكن على هذه الهيئة. (أي: كما هو الحال في صدر الاسلام). قال أبو عمرو: أسجد الرجل: طأطأ رأسه وانحنى، وأشد: فقلن له: أسجد لليلى فأسجدا. يعني البعير إذا طأطأ رأسه لتركبه”(2).
فواضحٌ من كلام أبي عمرو أن السجود هو الانحناء، ولا يُفهم منه أيُّ معنًى آخرَ؛ كما هو الأمر في اصطلاح الشرع. وهذا يشبه، تماما، إذا قلت: لعربي في الجاهلية، بِمَ رفعتَ الفاعلَ في قولك: كذا؟ ونصبتَ المفعولَ به في قولك: كذا؟ فهو لن يفهمك؛ ذلك بأن الرفعَ عنده: العلوُّ، والارتفاعُ. والنصبَ: الاستواءُ والاستقامةُ، إذِ العربُ -قديما- كانت تقول الكلامَ سليقةً، دون معرفة أسماء القواعد؛ ذلك بأن القواعد وضعت عندما بدأ اختلاطُ العرب بالأمم الأخرى؛ كما جاء النحوُ لحفظ القرآن من اللحن.
ويقول أبو بكر بن عبد القادر الرازي (تـ: بعد 666هـ): “(الصلاة) الدعاء. والصلاةُ من الله تعالى الرحمةُ. والصلاةُ واحدةُ (الصلواتِ) المفروضةِ -وهو اسمٌ يوضعُ موضعَ المصدر.
يقال (صَلَّى صلاةً) ولا يقال تصليةً. و(صَلَّى) على النبي صلى الله عليه وسلم. وصَلَّى العصا بالنار ليَّنها وقومَّها”(3).
هذا، ويذهب محمد بن القاسم الأنباري (تـ: 328هـ) إلى أن “الصلاة” من الأضداد قائلا: “والصلاة من الأضداد؛ يقال للمصلى من مساجد المسلمين: صلاة، ويقال لكنيسة اليهود: صلاة، قال اللهُ عزّ وجلّ: (يَا أَيَّهَا الذَّينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (النساء/43)، أراد: لا تقربوا المصلَّى؛ هذا تفسير أبي عبيدة وغيره.
وقال عزّ ذكره: (لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ) (الحج/40)، والصلوات عنى بها كنائس اليهود، واحدتها صلاة وكان الكلبي يقرأ (وصلوث) بالثاء، وكان الجحدري يقرأ: (وصلُوتٌ) بالتاء، ويزعم أنه سمع الحجاج بن يوسف، يقرأ: (وصلوبٌ) بالباء. وقال بعض المفسرين: الكنيسة بالعبرانية يقال لها: “صَلُوثا”، فعربتها العرب فقالت: صلاة. وقال بعض الشعراء:
وَاتَّقِ اللهَ والصَّلاَةَ فَدَعْهَا — إِنَّ فِي الصَّومِ والصلاةِ فسادا
أراد بـ “الصلاة” الكنيسة، وبـ”الصوم” ما يخرج من بطن النعام؛ يقال إذا صام الظليم (صغير النعام) إذا فعل كذلك.
وقال بعض المفسرين، لم يرد الله بالصلوات كنائس اليهود؛ ولكنه أراد بالصلوات، المعروفة؛ فقيل له: كيف تُهدّم الصلوات؟ فقال: تهديمُها تعطيلُها”(4).
فالشاهدُ من هذا كلِّه أن “الصلاة” أُعطيت دلالةً شرعيةً مع مجيء الإسلام؛ فنُقلت من المجال اللغوي إلى المجال الفقهي، وكذلك بالنسبة للأركان الأخرى، فالصيام أصلُه عندهم الإمساكُ، تم زادت الشريعةُ النيةَ، وحظرت الأكل والمباشرة وغيرهما، من شرائع الصوم؛ وكذلك الحجُّ، لم يكن فيه عندهم غير القصد، ثم زادت الشريعةُ ما زادته من شرائط الحج وشعائره. أما من حيث الزكاةُ، فلم تكنِ العربُ تعرفها إلا من جهة النماء، وزاد الشرع فيها ما زاده. ثم مما جاء في الإسلام ذكرُ المؤمن، من الإيمان وهو: التصديقُ، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنا. ويصدق الكلام حتى على “المسلم”، و”الإسلام”.
ثَانِياً: ألفاظ استُحدثت في صدر الإسلام:
– اَلْمُنَافِقُ: اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهلية، وهو من دخل في الإسلام بلسانه دون قلبه؛ وسمي منافقا؛ لأنه مأخوذ من نَافِقَاءِ اليربوع (إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها)، وقد جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه.
– اَلْفَاسِقُ: يقال: فسقت الرُّطبةُ إذا خرجت عن قشرها؛ ومنه فسق عن أمر ربه، أي: خرج. قال ابن الأعرابي (تـ:231هـ): لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم (فاسقٌ)، قال: وهذا عجب وهو كلام عربي. وجاء في “المختار الصحاح”: “الفسّيق الدائمُ الفسقِ. والفُوَيْسِقَةُ الفأرةُ”.
– اَلْكَافِرُ: من الكُفر -بضم الكاف- جحودُ النعمة، وهو ضد الشكر. والكَفر -بفتح الكاف- التغطية. والكافرُ الليلُ المظلمُ؛ لأنه سَتَرَ بظلمته كلَّ شيء. قال ابن السكّيت (تـ: 244هـ): ومنه سمي (الكافرُ)؛ لأنه يستر نعم الله عليه. وجاء (الكافرُ) بمعنى: الزارعَ؛ لأنه يغطي البذر بالتراب. و(الكفار) الزرّاع.
– اَلْمُخَضْرَمُ: من خضرمت الشيء أي: قطعته، وخضرم فلان عطيته أي: قطعها؛ وكان يطلق هذا اللفظ على الشعراء الجاهلين الذين أدركوا الإسلام، فمنهم: شاعرُ الرسول صلى الله عليه وسلم حسّانُ بنْ ثابت الأنصاري، وكعبُ بن زهير، وغيرهم؛ فسُمُّوا مخضرمين؛ كأنهم قطعوا عن الكفر إلى الإسلام.
ثم إن من بين الألفاظ التي قالها الرسولُ صلى الله عليه وسلم ولم تُسمع من قبله قط، ما يلي:
– “إِياكم وخضراءَ الدِّمن”: يعني بذلك المرأةَ الحسنةَ في منبت السوء؛ لأن ما ينبت في الدمنة، وإن كان ناضرا لا يكون ثامراً.
– “الحربُ خَدعةٌ”: من خدعه أي: ختله وأراد به المكروهَ من حيث لا يعلم، وقيل: الفتحُ في “خَدعة” أفصحُ من الضمّ؛ لأننا نقول: رجل خُدَعةٌ، بفتح الدال، أي يخدع الناسَ، وخُدْعَة، بتسكين الدال، أي: يخدعه الناسُ.
– “مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ”: الحتفُ: الموتُ، والجمعُ (حتوفٌ)، ولا يُبنى منه فعلٌ ومات فلانٌ (حتف أنفه) إذا مات من غير قتل ولا ضرب. والمقصود: أنه مات في فراشه، ولم يمت في المعارك. ويقول ابن دُريد (تـ: 321هـ): “ومعنى حتف أنفه: أن روحه تخرج من أنفه، بتتابع نفَسه، لأن الميت على فراشه من غير قتل يتنفس، حتى ينقضي رمقُه، فخص الأنفَ بذلك؛ لأنه من جهته ينقضي الرّمقُ”.
هذا، ومما سُمع عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لاَ يَنْتَطِحُ فِيْهِ عَنْزَانِ”، و”لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الجُحْرِ مَرَّتَيْنِ”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “الآنَ حَمَى الْوَطِيسُ”.
حريٌّ بنا أن نقول: إن ما ورد من ألفاظ إسلامية في كتاب “المزهر” يمكن أن يشكل مادة خصبة لدراسة المصطلح العلمي وقد وَقَرَ في قلبي أن ما أشار إليه العلامة السيوطي ما هو إلا غيض من فيض؛ ذلك بأن مجيء الإسلام سجل مرحلة جديدة من تاريخ اللغة العربية، ووثق لانتقال اصطلاحي لم تعرفه لغة القرآن من قبلُ؛ وإذا حُق لنا أن نختم؛ فليكن الختام ما قاله الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه الماتع: “في شرف العربية”: “إن لغة القرآن العزيز قد نقلت العربية من كونها لغة أدب نتبينها في الشعر القديم إلى لغة علم دقيق لها “مصطلحها الشريف”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – المزهر، 1/238.
2 – نفسه.
3 – مختار الصحاح/ مادة: (ص، ل، ا)، ص: 166.
4 – كتاب الأضداد، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم، الصفحتان: 338 – 339.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *