الأزمة الليبية وضعف الإرادة الدولية

استقرت الإرادة الدولية على اختيار حكومة للوفاق ومجلس أعلى للدولة في ليبيا، وفعلاً بدأت هذه الكيانات الجديدة تمارس أعمالها، وقد كانت هناك ملاحظة شديدة الأهمية يجب تسجيلها وتحليلها والتوقف عندها، ألا وهي أن المكونات الإسلامية في ليبيا، والتي كانت تتمركز في طرابلس، والتي تعرضت لهجوم شرس من أعداء الثورة الليبية ومن الاتجاهات العلمانية ومن كثير من القوى المحلية والإقليمية والدولية، هذه المكونات الإسلامية هي التي تعاونت مع الإرادة الدولية الجديدة وما أفرزته من أجهزة ليبية حاكمة، وتنازل الإسلاميون عن مصالحهم الخاصة وقدموا المصلحة الليبية العليا، وامتثلوا للواقع الجديد، بينما كان خصوم الإسلاميين والمتمركزين في برلمان طبرق والجنرال المتمرد خليفة حفتر، هم من وقفوا ضد الإرادة الدولية وعطلوا أعمال حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة، وكلمة السر في هذا الموقف هي الجنرال المتمرد خليفة حفتر.
وقد كان من المفترض أن يمتثل الجميع للإرادة الدولية وقراراتها وما أفرزته، لكن يبرز التساؤل عن سر الموقف المتشدد من رئيس برلمان طبرق ومن الجنرال المتمرد خليفة حفتر، وفي نفس الوقت سر الموقف الدولي المتراخي من حفتر وبرلمان طبرق.
فـ”عقيلة صالح” رئيس برلمان طبرق يرى أن الدعم الدولي لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج لا يساوي شيئًا، وأنه لن يعترف بالزيارات التي قام بها عدة وزراء خارجية أوروبيين إلى طرابلس لدعم حكومة الوفاق.. حتى لو زار طرابلس كل وزراء خارجية العالم. وهو يتشدد في ضرورة حصول حكومة الوفاق على ثقة برلمان طبرق، لكنه في نفس الوقت وبتنسيق من قوات خليفة حفتر، يمنعون النواب المؤيدين لحكومة الوفاق من دخول البرلمان وعقد جلسة به. ومطلبهم الرئيس هو تعديل الإعلان الدستوري وعدم المساس بوضع خليفة حفتر لقائد للجيش.
وبمناقشة الحجج السابقة يتبين أن برلمان طبرق ورئيسه خارجون عن الإرادة الدولية، وأنهم يعطلون العملية السياسية في ليبيا، وهذا يعني أن هناك جهات تدعمهم إقليميًا ودوليًا، وتقوي موقفهم، لأنه من المنطق لو انتفى الداعمون لهم لانتفى تصلب موقفهم وتشددهم. والجهات الإقليمية الداعمة معروفة، أما الجهات الدولية فهي غير معروفة، وإن كان بعض المراقبين يتحدثون عن موقف أمريكي مائع أو مزدوج أو منافق: يعلن في السر ما يخفيه في العلن.
أما العقبة الكبرى فتتركز في الجنرال المتمرد خليفة حفتر، فهو يرى أنه أصبح خارج اللعبة، لذا فإن موقفه أصبح يتميز بكثير من العناد والتوتر.
فتصريحات الرجل لوسائل الإعلام في الأيام الأخيرة بدت وكأن الجنرال المتمرد يضع نفسه فوق الجميع في ليبيا، فوق أي حكومة وأي مجلس وأي مؤسسة. فهو يرى أن حصول حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج على الثقة من مجلس نواب طبرق مسألة لا تعنيه، كما اعتبر أن المجلس الرئاسي الجديد الذي انبثقت عنه تلك الحكومة هو مجرد حبر على ورق، وهدد بأن الحكومة الجديدة لن تفلح ولن تحقق شيئًا بدعوى أنها ولدت في ظل الإرهاب، وأن الميليشيات التي يرأسها هي وحدها المنوط بها حماية ليبيا ومواجهة الإرهاب، وأعلن أنه غير معني بأي حوار سياسي ليبي، كما لو كان زعيما فوق الجميع ويحظى بإجماع وطني. وأضاف أنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في ظل إرهاب المليشيات، والديمقراطية لابد أن تمر عبر أجيال حتى تترسخ لأنها ثقافة ممارسة في الحياة اليومية.
هذه الثقة والعجرفة التي يتحدث بها الجنرال المتمرد لها سببان:
السبب الأول هو الجهات التي تدعمه، والتي تقوي قلبه، والتي أشرنا إلى دعمها السابق لبرلمان طبرق ورئيسه.
والسبب الثاني هو شعور الرجل أن الأمور تهرب من يديه، خاصة بعد القرار الدولي برفع تزويد الجيش الليبي بالسلاح، وتحديد المبعوث الدولي والجهات الدولية بأن الجيش الليبي هو الذي يتبع حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة والي تم البدء في الفترة الماضية في تأسيسه، وليس هو الجيش الذي يترأسه خليفة حفتر.
ومعنى ذلك أن هناك جيشًا سيتم تكوينه من جميع الليبيين أي من كافة الجهات والأطياف الليبية (كما أعلن المبعوث الدولي مارتن كوبلر)، وليس جيشًا منحازًا يعبر عن طيف واحد واتجاه واحد وجهة واحدة ولا يمثل جميع الليبيين.
الجنرال المتمرد مازال يلعب بورقة أنه القادر على محاربة الإرهاب، لكن الإنجازات التي تحققت مؤخرًا ضد “داعش”، سواء كانت من القوات التي تتبع حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة، أو القوات التي تتبع بعض الفصائل الثورية الإسلامية، هذه الإنجازات يبدو أنها أقنعت المجتمع الدولي بأن ورقة خليفة حفتر قد احترقت وانتهت.
تصريحات المبعوث الدولي إلى ليبيا مارتن كوبلر، والتي دعا فيها الليبيين إلى “الوحدة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية تحت قيادة رئيس حكومة الوفاق فايز السراج”، وأن “ضمان خليفة حفتر موقعا له في المرحلة القادمة مشروط بانضوائه تحت شرعية المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني”، هذه التصريحات تشير إلى أن الأمور لا تسير في اتجاه الجنرال المتمرد، الذي لن يرضيه أي دور أو موقع إلا أن يكون قائدًا للجيش، ولعل هذا هو السبب الرئيس في تصلب موقفه.
ما ينبئ بقرب انتهاء حقبة خليفة حفتر ما ذكرته صحيفة “الجارديان” البريطانية، في تقرير لها، أن “وزراء الخارجية الذين شاركوا في مؤتمر فيينا، مؤخرًا، حاولوا في كواليس المؤتمر إقناع مصر والإمارات بالتوقف عن دعم خليفة حفتر”، القائد العام للجيش الليبي. وأضافت الصحيفة، أن مصر المعنية بأمن حدودها غير راغبة في التخلي عن دعم “حفتر”، وتود أن يستولي هو على السلطة. وأشارت إلى تقارير تقول إن الإمارات قدمت مركبات عسكرية لمساعدة “حفتر” في محاربة تنظيم “داعش”.
وكان مؤتمر دولي عقد في العاصمة النمساوية “فيينا”، مؤخرًا، لدعم حكومة الوفاق الوطني الليبية بقيادة فائز السراج، برعاية أمريكية إيطالية وبمشاركة دول الجوار الليبي ودول أخرى، ولم يمانع المجتمعون في المؤتمر برفع حظر التسليح عن الحكومة الليبية.
تراخي الموقف الدولي عن الحسم مع خليفة حفتر ومع برلمان طبرق ومع الجهات الداعمة لهما أمر واضح، فلو علم الطرفان بالشدة الدولية والحسم، ووصلهما تهديد قوي، واستمعوا في الاجتماعات السرية وفي الكواليس لخطاب غير متهاون، لانصاعوا فورًا إلى القرارات الدولية.
ربما كان الحدث المهم في هذا السياق هو الخطوة التي اتخذها المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج بإنشاء قوة عسكرية وأمنية جديدة باسم “الحرس الرئاسي”، تتخذ من العاصمة طرابلس مقرا لها، وحدد قرار إنشاء هذه القوات مجالات اختصاصها وتبعيتها وشروط الانضمام إليها، وينص القرار على أن مهام هذه القوة العسكرية تتمثل في “تأمين المنشآت والمقار الحكومية وأعضاء الحكومة والوفود الأجنبية، بالإضافة إلى حراسة الأهداف الحيوية في البلاد كالمنافذ البرية والبحرية والجوية وخطوط نقل النفط وشبكات المياه”.
وحصر المجلس الرئاسي عضوية القوة العسكرية الجديدة على أفراد الجيش والشرطة الليبيين، الذين يعملون في وحدات عسكرية موجودة في الميدان، على أن يتم اختيارهم من مختلف مناطق ليبيا ويعاد دمجهم في الهيئة العسكرية التابعة للقيادة العليا للقوات المسلحة.
هذه الخطوة تعني أن قوات الحرس الرئاسي ستكون بديلة للجيش الذي يترأسه حفتر، بعد الخلافات الشديدة التي دبت بين حفتر والسراج، حيث يريد المجلس الرئاسي أن تكون “قوات الحرس الرئاسي” نواة لتأسيس جيش ليبي قادر على مواجهة “داعش”، وفرض السيطرة الأمنية في ليبيا، خاصة أن السراج يريد إنهاء ظاهرة خليفة حفتر و”جيش الكرامة” الذي تخشى حكومة الوفاق الليبي من سيطرته على المنطقة الغنية بالبترول غرب ليبيا.
وسوف يكون مطلوبًا من قوات “الحرس الرئاسي” في البداية أن تعمل بمفردها على تطهير مدن الهلال النفطي من تنظيم “داعش” والسيطرة عليها قبل أن يفعلها جيش حفتر.
ليلى بيومي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *