من عوامل الاختلاف القاتل، والفرقة المدمرة، والتباغض الذي لا يبقي من الود شيئا التعصب لغير الحق، وهو التعصب الممقوت (1)، الذي يمكن تعريفه بأنه: “عدم قبول الحق عند ظهور دليله” قواعد الفقه للبركتي 231.
وهذه الخصلة المذمومة شيمة من شيم الضعف وخلة من خلال الجهل يبتلى بها الإنسان فيعمى بصره وقلبه، فلا يرى حسنا إلا ما حسن في رأيه، ولا صوابا إلا ما ذهب إليه هو أو من تعصب له.
يقول الشوكاني رحمه الله في حسرة مبينا خطر ذلك: “هاهنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين، من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لما غلت مراحل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين، لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بقيعة، فيا لله وللمسليمن من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين” السيل الجرار 4/584.
واعلم أن التعصب لازمه ادعاء العصمة للنفس أو للغير ففيه ما فيه من خطل الرأي، ومجانبة الصواب لأن مُؤَداه أن يصير المُتَعَصب له شارعا لا متشرعا وهو باطل، وما أدى إليه مثله.
قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: “فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ “: “جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتاجرون” إعلام الموقعين 1/7.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم، وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله” الفتاوي 11/28.
وقال بعضهم في وصف أهل الجاهلية:
ثم التعصب لكل ما نمي إليهم بنسب أو رحم
والتعصب قائم على الجهل والاعتساف وإتباع الهوى والخروج عن الإنصاف.
ولهذا وصف ابن القيم أهل العلم والعدل بكونهم: “زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهانا” إعلام الموقعين1/706.
وسبيل التعصب الضلال عياذا بالله كما قال تعالى: “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا”.
قال الشوكاني رحمه الله: “والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به، وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب” فتح القدير.
وقد تكلم العلماء عن جملة من الأسباب التي تحمل المرء وتبعثه على هذا التعصب الممقوت ومن ذلك:
1ـ نشأة المرء في بيئة يتمذهب أهلها بمذهب معين أو تلقوا عن عالم مخصوص فيتعصب ولا ينصف.
2ـ حب الشرف والمال، ومداهنة أهل الوجاهة والتماس ما عندهم، فيقوي ما يناسبهم فيتعصب لغير الحق.
3ـ الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم، والتعرض للمناظرات، وطلب الظهور والغلبة، فيقوى تعصبه لما أيده ولا ينصف.
4ـ الميل لمذهب الأقرباء، والبحث عن الحجج المؤيدة له للمباهاة بعلمهم فيتعصب لخطئهم.
5ـ الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قيلت ثم تبين بطلانها فيتعصب دفعا للحرج.
6ـ التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها ويخطأ ما خالفها، وهي في نفسها محل نظر، فيتعصب بالبناء عليها.
7ـ التنافس بين المتقاربين في الفضيلة أو المنزلة، قد يدفع أحدهما لتخطئة صواب الآخر تعصبا ومجانبة للإنصاف. انظر آداب الطلب للشوكاني.
فالحذر الحذر من التعصب للأقوال والقائلين إذا لاح لك الحق المبين فالحق أبلج والباطل لجلج (فإن التعصب مذهب للإخلاص، مزيل لبهجة العلم، معم للحقائق، فاتح باب الحقد والخصام الضار، كما أن الإنصاف هو زينة العلم، وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح) الفتاوى السعدية 459.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لأن التعصب للحق والصواب تعصب محمود.