تطور فقه الأسرة في المغرب.. من التدوين الفقهي إلى الاستيعاب الوضعي إعداد: محمد زاوي

1التنظيم الفقهي للأسرة بالمغرب

عرف المغاربة الفقه تنظيما قانونيا لهم، قبل تدخل الاستعمار وقبل فرض منطقه -منطق “القانون الوضعي”- على الذهنية المغربية. ورغم ذلك، فقد بقي المغاربة على شريعتهم، متشبثين بخصوصيتهم التشريعية في تنظيم عدد من قضايا المعاملات، التي من أبرزها الأسرة.

وقد كان القضاء في تنظيمه صادرا عن أحكام الفقه المالكي، وما تنظمه من حقوق خاصة بأفراد الأسرة، أي حقوق الزوج والزوجة والأبناء والأصول وغيرهم من الأقارب حسب ما تقتضيه الشريعة على مذهب مالك. فكان كل حكم من الأحكام التي يعتمدها القضاة مبنيا على أصله في المذهب، كما هو معروف لدى الفقهاء.

فإذا تحدثنا مثلا عن وجوب حسن المعاشرة المتبادلة بين الزوجين، فإن القضاة كما الفقهاء يستنبطونه من دليل من القرآن، هو قوله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون” (الروم:21). ومن واجبات الزوج تسليم المهر، ودليله قوله تعالى “وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً” (النساء:4). وعلى الزوجة القرار في بيت زوجها، وأصله قول الله عز وجل: “وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى (الأحزاب:33)… الخ. فعلى هذا المنوال كان يحكم القضاة في قضايا الأسرة، على ضوء ما عرض عليهم من نوازل.

 

2-التنظيم الوضعي للأسرة.. النشأة والتطور

مر التنظيم الوضعي للأسرة بالمغرب بعدة مراحل، يمكن إجمالها فيما يلي:

– صدور مدونة الأحوال الشخصية بموجب ظهير سنة 1957، ثم سنة 1958، كنتيجة لأشغال لجنة تم تكوينها برئاسة علال الفاسي، والتي زاوجت في عملها بين أحكام الفقه واستنتاجات بحثية حديثة.

– محاولات تعديلية باءت بالفشل، عامي 1974 (بإشراف لجنة وزارية عن وزارة العدل) و1981 (بإشراف لجنة ملكية).

– إصدار مدونة أحوال شخصية جديدة عام 1993، تتويجا للعمل الذي قامت به لجنة تعديل مدونة الأحوال الشخصية، والتي ترأسها عبد الهادي بوطالب.

– الإعلان عن تعديل المدونة عام 2003، في خضم النقاش الذي أثير حول “خطة إدماج المرأة في التنمية”، وتحت إشراف لجنة ملكية تم شكيلها عام 2001. (1).

3-من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة

لم يتم تغيير تسمية هذا القانون من “مدونة الأحوال الشخصية” (1957 مع تعديلات لحقتها فيما بعد) إلى “مدونة الأسرة” فحسب، بل شمل هذا التغيير مضمون القانون أيضا. فجاءت مدونة الأسرة بمستجدات، يمكن إجمالها فيما يلي:

– مستجدات خاصة بالأسرة عموما، لعل من أبرزها: تحديد الفئات الخاضعة للمدونة، تعريف الزواج تعريفا جديدا بكونه “ميثاقا غايته الإحصان و إنشاء أسرة مستقرة تحت رعاية الزوجين” (بعدما كان برعاية الزوج وبغرض آخر هو “تكثير سواد الأمة”)، إدخال النيابة العامة كطرف أصلي في جميع القضايا التي تشملها المدونة، الخ.

– مستجدات خاصة بالخطبة، من قبيل تناولها بمزيد من التفصيل، وكذا التنصيص على حق التعويض عن ضرر فسخ الخطبة.

– مستجدات متعلقة بالزواج؛ منها تحديد سن الزواج في سن لا يقل عن 18 سنة (مع استثناء بإذن القضاء) لطرفي العلاقة الزوجية معا، حق الولاية للمرأة الرشيدة، مقتضيات جديدة خاصة بالصداق (القيمة المعنوية، المطالبة لا يلحقها تقادم)، إلخ.

– مستجدات متعلقة بتدبير العلاقة الزوجية؛ منها: الحق في تنظيم الموارد المالية المتحصلة في فترة الزواج من قبل الزوجين (عن طريق اتفاق بينهما)، تقييد تعدد الزوجات (بالقدرة وموافقة الزوجة)، إلخ.

– مستجدات خاصة بفسخ عقد الزواج، أي الطلاق؛ من قبيل حكم المحكمة بالتطليق إذا تعذر الاصلاح بين الزوجين واستمر الشقاق بينهما، طلب الطلاق من المحكمة (تبت فيه في غرفة المشورة، ثم تحاول الإصلاح بين الزوجين قبل الحكم بالطلاق)، تقدير مبلغ الخلع بعد اتفاق الزوجين عليه واختلافهما على قيمته (التقدير من قبل المحكمة)، بت المحكمة في دعاوى التطليق بشروط (الإخلال بشرط في عقد الزواج، الضرر، عدم الإنفاق، اللعيب، الإيلاء والهجر بعد القيام بمحاولة الصلح خلال أجل أقصاه ستة أشهر)، إلخ.

– مستجدات خاصة بتربية الأبناء؛ منها التنصيص على حقوقهم الأساسية (أثناء العلاقة الزوجية وبعد فسخها)، ضرورة توفير عناية خاصة للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة.

– مستجدات خاصة بالحضانة؛ كحق المحكمة في اختيار من تراه صالحا للحضانة، تقييد فترة الحضانة ببلوغ سن الرشد للذكر والأنثى معا، رفع سن اختيار الحاضن لمحضونه من أبويه (15 سنة للذكر والأنثى على حد سواء)، ومستجدات أخرى متعلقة ب”أجرة الحضانة” و”إفراغ المحضون من بيت الزوجية”، الخ.

– مستجدات متعلقة بتدخل المحكمة في قضايا الأسرة؛ من أجل إرجاع أحد الطرفين إلى بيت الزوجية، أو من أجل إعادة النظر في الحضانة لمصلحة المحضون، أو الرقابة على أداء الوالدين لحقوق أبنائهم، إلخ.

– مستجد يخص النسَب، إذ أقرت مدونة الأسرة بشرعية البنوة بالنسبة للأم والأب إلى أن يثبت العكس، وبإثبات النسب بالظن وانتفائه بحكم قضائي فقط، بالإضافة إلى مقتضيات أخرى مرتبطة بإثبات النسب الناتج عن شبهة، الخ.(2)

 

4-من الفقه إلى القانون.. الاستيعاب الوضعي لفقه الأسرة

يرى بعض الدارسين أن علاقة المدونة بالفقه المالكي، في المغرب، تفيد استنتاجين لا بد من اعتبارهما:

– اعتماد المدونة للفقه المالكي أساسا، رغم بعض صيغها أو مقتضياتها الوضعية، ورغم أخذها ببعض الأقوال المذهبية غير القول المالكي.

– محدودية الاختلافات بين مدونة الأحوال الشخصية ومدونة الأسرة، من حيث المنطق الجوهري الذي يصدران عنه، وهو في الأصل منطق فقهي على أصول المالكية. (3)

(أطروحة دكتوراه، “مركز الفقه المالكي في مدونة الأسرة: دراسة في المصادر المادية للمدونة من خلال كتاب الزواج”، إنجاز الباحث عمر المزكلدي).

ومن بين القضايا التي اختلفت فيها مدونة الأسرة عن مدونة الأحوال الشخصية، من حيث اعتماد الفقه المالكي؛ نجد أن الأولى خرجت عن حدود هذا الاعتماد في عدد من القضايا، لعل من أبرزها:

– اشتراط عدم تقييد عقد الزواج بأجل أو شرط واقف أو فاسخ (المادة11).

– اكتساب القاصر الأهلية المدنية في ممارسته حق التقاضي فيما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق وواجبات (المادة22).

– اشتراط كمال أهلية الموكل في عقد الزواج (المادة17).

وفيما يتعلق بانحسار الاختلاف بين المدونتين، من حيث علاقتهما بالفقه المالكي؛ فيتجلى في قضيتين أساسيتين، هما: تخلص الصياغة القانونية لمدونة الأسرة من بعض الصيغ الفقهية، الأخذ ببعض المفاهيم من خارج الفقه المالكي.(4)
——————————————
المراجع:
(1): رشيد زيزاوي، مقال “التطور التاريخي لمدونة الأسرة المغربية”، تاريخ النشر 14 يناير 2016.
(2): نفسه.
(3): أطروحة دكتوراه، “مركز الفقه المالكي في مدونة الأسرة: دراسة في المصادر المادية للمدونة من خلال كتاب الزواج”، إنجاز الباحث عمر المزكلدي.
(4): نفسه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *