يعد المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وللمسجد الأقصى مكانته الجليلة في الإسلام، فهو أولى القبلتين ومسرى النبي محمد ﷺ، وفي القدس دفن عدد كبير من الصحابة. وجسد المغاربة لقرون ارتباطهم العميق والوثيق بالقدس الشريف، حتى شهد هذا التاريخ نماذج ملهمة رابطت في القدس وقدمت له خدمات جليلة.
ويسجل أن عددا هاما من أعلام بلاد المغرب عرجوا على بيت المقدس منذ القدم، منهم عن العصر الوسيط نذكر القاضي عبد الله بن العرب، الذي عاش خلال فترة دولة المرابطين، وكان قد توجه إليها نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في سفارة لدى الخليفة المستنصر العباسي من قِبل السلطان يوسف ابن تاشفين، وفق ما جاء عند ابن خلدون.
وهناك عشرات الأوقاف التي تطوع بها محسنون مغاربة لفائدة القدس الشريف، مثلما يذكر أبو مدين شعيب بن أبي عبد الله محمد ابن أبي مدين شعيب المغربي دفين تلمسان المتوفى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وهو تلميذ سيدي حرازم.
يبقى كون المسجد الأقصى، ومن خلاله القدس الشريف وفلسطين، كان دوما بعناية مغربية خاصة ولا تزال، وفضلاً عن وكالة بيت مال القدس ورمزيتها، نستحضر رسالة كان قد توجه بها الراحل الملك الحسن الثاني إلى بابا الفاتيكان بولس السادس في فاتح يوليوز من سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، رسالة تاريخية استهدف بها لفت انتباهه إلى بيت القدس وما أقدم عليه الصهاينة من عمل خطير به لمَّا قاموا بإلحاق المدينة المقدسة بما سيطروا عليه في أرض فلسطين، ولمَّا انتهكوا حرماتها وداسوا مقدساتها واعتدوا على أهلها وحكامها الشرعيين.
وفي المراحل الأولى لنشأة دولة الاحتلال الصهيوني فوق الأراضي الفلسطينية، كانت السلطات الرسمية المغربية وهي تحت الاستعمار الفرنسي، تتابع بشكل دقيق أحوال مغاربة القدس الشريف وأوقافهم. وتقول الوثائق الرسمية إن إحصاء شاملا لهذه الأوقاف والممتلكات كان في حوزة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.
وحتى سنوات السبعينيات من القرن الماضي، كانت السلطات المغربية تبعث إعانات مالية مباشرة إلى قرابة 3 آلاف مغربي يقيمون في القدس الشريف. وتشهد على ذلك رسالة توصل بها السفير المغربي في الأردن في شهر مارس 1977، من روحي الخطيب عمدة بلدية القدس الشريف المحتل، وتتضمن الرسالة بيانات ومعلومات وجداول حول الممتلكات المغربية التي يهددها الاحتلال الصهيوني.
وناشد الخطيب في رسالته تلك السلطات المغربية أن تضيف قضية عقاراتها ومواطنيها إلى قائمة القضايا المتعلقة بالقدس وبالقضية الفلسطينية، “وأن توصوا حكومتكم الجليلة بما يخفف المصاب ويحافظ على إبقاء هذا الصرح الديني الخيري قائما وفي مكانه ليؤدي رسالته التي حافظ عليها الخيرون من أبناء المغرب والجزائر وتونس وليبيا وبالتعاون مع إخوانهم أهل القدس ومع الحكومات المتعاقبة التي حكمت القدس”.
وفي الوقت الذي كانت دول المغرب العربي تتابع عن كثب مصير آثارها في القدس الشريف وتقاوم فيه الاستعمار الفرنسي المحتل لها، قامت الدولة الفرنسية -باعتبارها وصية على هذه الأقطار المغاربية- بمراسلة إسرائيل، مطالبة إياها بالاعتراف رسميا بأن قرية عين كريم والأراضي التابعة هي ممتلكات مغربية – جزائرية – تونسية. وبرفع الحجز عن هذه الممتلكات، ثم أداء تعويضات عن استغلال هذه الممتلكات منذ الاحتلال الإسرائيلي أي منذ شهر مايو 1948.
عائشة المصلوحي.. مرابطة تواصل صون أمانة المغاربة بالقدس
في آخر ما تبقى من مباني حي المغاربة الذي دمره الكيان الصهيوني عقب احتلاله القدس، تستمر المغربية المقدسية عائشة المصلوحي في مجاورة المسجد الأقصى بالمدينة الفلسطينية.
لم تفرط بأصولها المغربية، ولم تبرح حيها رغم تدميره، وظلت مقيمة بجوار الحرم القدسي، مواصلة بذلك مسيرة رباط مغاربي ضارب في تاريخ القدس.
وعن نشأتها، أوضحت المصلوحي أن والدها الذي ولد وكبر في قرية “تمصلوحت” بمراكش كان سبب وجودها وعائلتها في مدينة القدس، حيث استقر في المدينة بعد عودته من أداء فريضة الحج.
وأضافت: “كان لدى الحجاج المغاربة عادة تتمثل في وجوب التوجه بعد الانتهاء من الشعيرة إلى المسجد الأقصى ثم الرجوع إلى بلادهم، وكان بعض هؤلاء يفضلون البقاء في القدس خاصة مع وجود حي كبير للمغاربة في القدس”.
وتابعت: “كان والدي من الذين فضلوا البقاء ومجاورة المسجد، وسكن بحي المغاربة، وتزوج والدتي المقدسية وولدت أنا في ذلك الحي الملاصق للمسجد الأقصى، وبقينا محتفظين إلى جانب هويتنا المقدسية بوثائقنا الشخصية المغربية”.
وشكل احتفاظ المصلوحي بجنسيتها المغربية ووثيقتها المقدسية فرصة خولت لها حرية التنقل بين المغرب وفلسطين، وعدم الانقطاع عن أي منهما.
وبحسب المصلوحي، ظلت عائلتها مجاورة للمسجد الأقصى بحي المغاربة، الذي كان “حيا عامرا مزدهرا بأهله وعلمائه”.
وأوضحت: “كنَّا نسكن في الحي مع مئات العائلات التي ترجع في أصولها المغاربية إلى الجزائر وتونس والمغرب، لكن العدد الأكبر من سكان الحي كانوا ممن جاء من المغرب”.
وأردفت أن “حب بيت المقدس فريد من نوعه وأنا دائما أقول إنه موجود في جيناتهم، وهو الذي دفعهم إلى السكن في هذا الحي منذ عهد صلاح الدين ومجاورة المسجد الأقصى والرباط فيه”.
وعن رباطها إلى جانب عائلات مغربية أخرى في القدس، قالت المصلوحي “إن الرباط جزء من العقيدة وهو تشريف وتكليف إلهي من الله سبحانه”.
وتابعت: “الرباط في القدس اليوم من المغاربة وغيرهم من الذين ارتبطوا بالقدس ولا يوجد فيهم من يفكر أبدا في الهجرة أو النزوح”.