بعد حصول المغرب على استقلاله، اعتبر مبدأ التعريب ركنا أساسيا في بناء المدرسة الوطنية إلى جانب التوحيد والتعميم والمغربة، وهي مبادئ منسجمة مع متطلبات تلك المرحلة التي كانت تتوخى بناء الدولة الوطنية عبر تعزيز استعمال اللغة العربية بغاية توحيد التعليم العمومي و تجاوز الوضعية التي تركها المستعمر الفرنسي، وكانت تجربة التعليم الحر بالمغرب حاضرة و قوية بفضل احتضانها ورعايتها من قبل الحركة الوطنية. ثم ازدادت سرعة التعريب مع خلق منافذ لإنقاذ المعربين، موازاة مع الشروع في إعادة تنظيم التعليم الأصيل، ولقد ارتبط التعريب بمبدأ تعميم المغربة أكثر من ارتباطه بالتوحيد.
بعد فشل تنزيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين كما جاء في التقرير التقويمي الصادر سنة 2008، أتى بعده تصور جديد يخص هذه المرة البرنامج الاستعجالي 2009/2012، لكن هذا الأخير تم توقيفه من طرف الوزير الذي كان سابقا على رأس الوزارة الوصية محمد الوفا. وبعد سنوات من النقاشات والسجالات العميقة داخل دواليب المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالمغرب، خرج للعلن تصور جديد، وهو الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015/2030.
ولتنزيل هذه الخطة، تمت بلورة القانون الإطار 51.17 من قبل نفس المجلس. وهو القانون الذي يشكل الإطار العام الذي يحكم القوانين والقرارات والإجراءات المتعلقة بالتعليم كما جاء في ديباجته.
وما يهمنا في هذا المقال هو مناقشة أحد البنود التي تضمنها القانون المذكور والذي يقضي باعتماد اللغات الأجنبية في تدريس بعض المواد، مخلفا ردود أفعال كثيرة عند الرأي العام الوطني. ونخص هنا بالذكر الرافعة الثالثة عشر والتي تنص على التعددية اللغوية، والذي وحسب مقتضاه؛ مقاربة بيداغوجية وخيار تربوي متدرج يستثمر في التعليم المتعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس إلى جانب اللغتين الرسميتين للدولة، وذلك بتدريس بعض المواد، ولاسيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو بلغات أجنبية؛ ومن أهدافه:
تمكين المتعلم من إتقان اللغتين الرسميتين واللغات الأجنبية، ولا سيما في التخصصات العلمية والتقنية، مع مراعاة مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص.
إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد، ولا سيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو لغات أجنبية.
تنويع الخيارات اللغوية في المسالك والتخصصات والتكوينات والبحث على صعيد التعليم العالي، وفتح مسارات لمتابعة الدراسة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية في إطار استقلالية الجامعات، وحاجاتها في مجال التكوين والبحث، حسب الإمكانيات المتاحة.
فبعد دخول الصيغة الجديدة في التدريس بالمغرب حيّز التنفيذ، سنة 2019، بدأت إشكالياته تظهر جليا للمتتبع لهذا الشأن.
اليوم كما بالأمس يعود من جديد نقاش السياسة اللغوية المتبعة في مختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي خصوصا بعد مصادقة البرلمان على القانون الإطار رقم51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والذي تم الاشارة فيه الى إقرار التعدد اللغوي أو بالأحرى التناوب اللغوي كخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات لكن جزءا من هذا النقاش المتطور والحاد كان حول التعريب والتعدد، حيث دعت بعض الأصوات إلى إزاحة التعريب من الفصول الدراسية باسم الحداثة والتقدم ومسايرة العصر.
ولفهم جانب من مسألة التعريب وخلفياته، يمكننا الاستئناس برؤى ومواقف العالم اللغوي والباحث الرصين الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري.
وجود هذا التعدد اللغوي واللهجي الذي تعرفه المجتمعات هو الذي دفع الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري للدعوة إلى سن سياسة لغوية متزنة ومتوازنة تنظر إلى مختلف مكونات الوضع اللغوي بالمغرب، وهي أن لا تهيمن اللغة الأجنبية على السوق اللغوية الوطنية فتضيع اللغة العربية واللغات واللهجات المحلية، ولا هيمنة اللغة العربية وحدها فتضيع اللغات الأجنبية التي هي أداة الانفتاح.
التعدد اللغوي محمود من حيث المبدأ لأنه كما يراه الأستاذ الفاسي الفهري رأس مال رمزي يمكن توظيفه في الاتصال بالثقافات والشعوب الأخرى، وان كان أن هذا الأمر قد يؤدي إلى إشكالات ومتاعب وصعوبات على مستوى المجتمع وسياساته الاجتماعية والثقافية والتربوية
إن السياسة اللغوية المتزنة في نظر هذا الفقيه اللغوي تقوم على مبدأ التعدد والتنوع اللهجي من جهة وعلى مبدأ التعدد اللغوي من جهة ثانية، والتعدد اللغوي هو الذي يتيح الانفتاح على العالم ويتيح الوصول إلى المرجعيات والمعلومات التي نحتاج إليها والتي لا تمكننا اللغة العربية وحدها من ربط الصلة بها.
ويرى الأستاذ الفاسي الفهري أنه لا توجد ازدواجية لغوية في المغرب خلافا لما يعتقد الكثيرين من المتتبعين للشأن اللغوي، فالازدواج اللغوي الرسمي قائم في كندا وبلجيكا أو سويسرا لأنه يتيح للمواطنين في هذه الأقطار أن يستعملوا لغتين على قدم المساواة للتوظيف في قطاع التعليم والإدارة والاقتصاد والحياة اليومية فتكون الازدواجية (فرنسية-انجليزية)-(فلامانية –فرنسية)- (فرنسية – ألمانية) ناتجة عن تكافؤ في وظيفية اللغتين وقدرتهما على التعبير في مختلف المجالات.
أما في المغرب فان الازدواج اللغوي غير وارد لأن اللغة العربية لم تتح لها فرصة القيام بالأدوار الكبرى التي وكلت وتوكل للغة الفرنسية في الإدارة والاقتصاد والمجالات العلمية الدقيقة، ونحن كما يعتقد الأستاذ الفاسي الفهري بإزاء تشقيق لسني لا ازدواج لغوي فعلي أو ثنائية لغوية كما هو الشأن في كندا مثلا ولا إزدواج لهجي طبيعي كما نجد في ملاسنة العربية والعامية.
منذ ما يقارب عشرين سنة من الآن، تراجعت اللغة الفرنسية بعدة دول في أوروبا، كانت تستعمل فيها كلغة أجنبية، كما هو الحال بالنسبة إلى إسبانيا والبرتغال، ولكن في مقابل ذلك، تقوى دورها في المغرب من خلال الميثاق الوطني والخطة الإستراتيجية اللذين أقرا في حقل التربية والتكوين، ونحن لا نعرف أسباب تقوية هذا الدور والاتحاد الأوروبي يعيد النظر في عدد من الخطط، خاصة تلك المرتبطة بالتعدد اللغوي المطلق، وتراجع الدعم الموجه إلى سياسات التنوع بشكل كبير.
اللغة الإنجليزية حافظت على مكانتها كلغة ثانية في عدد من الدول، وهذا التوجه مرتبط بالفرص التي تتيحها، في حين أن مجموعة من الفاعليات التي تنظم حتى في فرنسا تكون باللغة الإنجليزية، وتنظم مناظرات دولية لا يسمح خلالها بالحديث باللغة الفرنسية.
حينما نقرن اللغة الفرنسية بالفرص فهنا يقع المشكل، اذ كان على المغرب أن يترك الباب مفتوحا كما قال بذلك الميثاق، ويكون بذلك هذا الاختيار أكثر ذكاء من أن يتم تحديد اللغة (الفرنسية في حالة التعليم المغربي)، خاصة عندما يكون الحديث عن خطة إستراتيجية لسنة 2030، وبالتالي سنورط المغاربة في اختيارات غير صالحة خلال السنوات المقبلة.