“حسبي من سؤالي علمه بحالي” محمد أبو الفتح

قال القرطبي في تفسيره 11/303: (روى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: “لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك”. قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي). وقال البغوي في معالم التنزيل5/327: “رُوي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه (فذكره)” ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

ذكر هذا الخبر عدد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: “قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ” (الأنبياء)، ولم يذكروا له إسنادا؛ ولذلك قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة 1/74: “لا أصل له، أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات ولا أصل له في المرفوع”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى8/539: “..وأما قوله: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم: “ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”، ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها فكيف يكون مجرد العلم مسقطا لما خلقه وأمر به؟!” اهـ.
ثم إن هذه الرواية الواهية معارضة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “(حسبنا الله ونعم الوكيل)، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: “إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” (أخرجه البخاري).
وقد أثنى الله تعالى على الأنبياء بدعائهم إياه فقال: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ” (الأنبياء)، كما أمر الله تعالى عباده بدعائه، وجعله من عبادته، وتوعد المستكبرين عنه فقال: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” (غافر)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ” ثم تلا هذه الآية (صحيح الجامع 3407)، وقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لاَ يَدْعُ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ” (أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي). ودعوات الأنبياء في القرءان أشهر من أن تذكر، ومن ذلك تضرع النبي صلى الله عليه وسلم، واستغاثته بربه يوم بدر، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه مَادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ” (الأنفال)، فأمده الله بالملائكة” (أخرجه مسلم).
هذه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه، فمن أحسن منه حالا؟! ومن أرفع منه درجة حتى يستغني عن دعاء ربه؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *