“إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة” أسماء الله تعالى العليم، عالم الغيب وعلام الغيوب الحلقة الواحدة والخمسون (تتمة) ناصر عبد الغفور

وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم مقولة القدرية أشد الإنكار واعتبروها من أكبر المحدثات وأعظم الضلالات، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما تمنى أن لو تمكن من أحدهم حتى يدخل رقبته في يده فيدقها حتى الموت أو يجذع أنفه على الأقل، وكان يومئذ قد عمي.
وفي صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفناه أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم1 -وذكر من شأنهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر .” 2.
ب- علمه سبحانه وإحاطته بالممكنات والواجبات بل بالمستحيلات والممتنعات:
“أما الواجبات فإنه سبحانه يعلم ذاته الكريمة ونعوته المقدسة، التي لا يجوز في العقل انتفاؤها، بل يجب عنده ثبوتها ووجودها، وأما الممتنعات فإنه يعلمها حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت، كما أخبر عن الآثار المترتبة على وجود آلهة معه في قوله تعالى: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا” 3 (الأنبياء:22)، فهذا فساد لم يقع، لأنه مترتب على ممتنع وهو وجود إله مع الله، فلو وقع هذا الممتنع لوقع هذا الفساد، كقوله سبحانه: “مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ” (المؤمنون:91)، فذهاب كل بما خلق وعلو بعضهم على بعض كان يترتب على وجود إله مع الله، الذي هو ممتنع بحيث لو حصل لحصل. فهذا إخبار منه سبحانه بما ينشأ عنها لو وجدت على سبيل الفرض والتقدير، وأما الممكنات وهي التي يجوز في العقل وجودها وعدمها، فهو يعلم ما وجد منها وما لم يوجد، مما لم تقتض الحكمة إيجاده” 4.
ج- علمه سبحانه بالكليات والجزئيات:
أي بعموم كل الأشياء وتفاصيلها ودقائقها، كما قال تعالى: “عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ 5 مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (سبأ:3)، وقال جل جلاله: “وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء..” (يونس:61).
و قد أنكر علم الله تعالى بالجزئيات الفلاسفة6 قائلين بأن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا على وجه كلي لا جزئي.
وهذا الأمر اعتبره الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى من المسائل التي يكفر بها هؤلاء فقال:
” ويجب القطع بتكفيرهم في ثلاثة مسائل وهي:
– إنكارهم لحشر الأجساد والتعذيب بالنار والتنعم في الجنة بالحور العين والمأكول والمشروب والملبوس.
– والأخرى قولهم: إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث وإنما يعلم الكليات..
– والثالثة قولهم: إن العالم قديم وأن الله تعالى متقدم على العالم بالرتبة مثل تقدم العلة على المعلول..” 7.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “بل منهم من ينكر علمه مطلقا كأرسطو وأتباعه، ومنهم من يقول: إنما يعلم الكليات كابن سينا وأمثاله، ومعلوم أن كل موجود في الخارج فهو جزء معين فإن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات المعينة” 8.

—————–
1- أي يطلبونه ويتتبعونه وقيل معناه يجمعونه، وانظر شرح صحيح مسلم الحديث الثامن في كتاب الإيمان الباب الأول.
2- صحيح مسلم الحديث رقم:8.
3- وهذه من الأدلة العقلية على وحدانية الله تعالى، فالقرآن مليء بأنواع الأدلة على هذا الأمر العظيم الذي هو الغاية من وجودنا على هذه البسيطة، فهناك ما يسمى بالأدلة الكونية أو الحسية حيث يتوصل الإنسان إلى توحيد الله من خلال الكون وباستعمال حواسه كما قال جل وعلا: “قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..”، وهناك الأدلة النفسية أو الداخلية حيث تنتزع هذه الحقيقة من داخل الإنسان ومن أعماقه كما قال تعالى: “وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ”، ثم هناك الأدلة العقلية التي قسمها العلماء إلى عدة أنواع منها: الدليل البديهي ودليل التسليم ودليل التمانع كما في هذه الآية:”لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا”.
‎4- شرح القصيدة النونية المسماة الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، للعلامة محمد خليل هراس، ص:458، المجلد الثاني، دار الإمام أحمد.
5- قال مجاهد وقتادة: “لا يعزب” أي لا يغيب، أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء؛ ذكره ابن كثير في تفسيره.
6- ومنهم ابن سينا الذي يغتر به كثير من الناس ويقولون عنه فيلسوف الإسلام، والأمر أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة هذا الرجل، لا يعرفون عنه إلا أنه صاحب كتاب القانون في الطب الذي اشتهر وذاع بل كان من أول المقررات في الجامعات الأوربية في القرون الوسطى.. والحق أن هذا الرجل نطق وكتب كفريات تخرج عن دائرة الإسلام، يقول عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد، لا مبدأ عنده ولا معاد ولا رسول ولا كتاب..” إغاثة اللهفان، ص:263/2، دار المعرفة، وقد أطال النفس رحمه الله في بيان بطلان مذهبه في نونيته، ومما جاء فيها:
أو ذاك المخدوع حامل راية الـــــــــ إلحاد ذاك خليفة الشيطـــــــــان
أعني ابن سينا ذلك المحلول مــــــن أديان أهل الأرض ذا الكفـــران
وكذا نصير الشرك في أتباعـــــــــه أعداء رسل الله والإيمـــــــــان
نصروا الضلالة من سفاهة رأيهــــم وغزوا جيوش الدين والقــرآن
فجرى على الإسلام منهم محنـــــــة لم تجر قط سالف الأزمـــــــــان
7- الحدائق في المطالب، 119/1. وقال رحمه الله تعالى في كتابه المنقد من الضلال: (ومن ذلك قولهم: “إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فهو أيضا كفر صريح، بل الحق: “أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض”).
8- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ص:353-354، المجلد الأول، دار العاصمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *