..مدت فرنسا يدها إلى تعليم المسلمين، فسعت سعيا حثيثا على القضاء على المكاتب القرآنية وإضعافها، حتى لم يبق منها اليوم إلا عدد ضئيل، وكون أهالي البلاد مدارس أهلية إسلامية قصدوا منها تكوين شباب مخلصين لدينهم ووطنهم، محتفظين بلغتهم العربية. فما كان من فرنسا إلا أن سلطت على هذه المدارس جيشا من الدسائس والمكايد أولا، ثم وضعت تشريعا يقيد حريتها، ولا يدع فيها شيئا يساعد على تثبيت الروح الإسلامية في نفوس الناشئة، وانتهى الأمر بإعدام هذه المدارس، ونفي فريق من مديريها وسجن فريق آخر، واضطهاد الفريق الباقي بدعوى أن لهم غيرة إسلامية، تثير في نفوس الشباب روح الوطنية الصادقة، واتجه المغاربة إلى مدارس الشرق العربي، وأصبحوا يرغبون في بعث أبنائهم إلى تلك المدارس، فلم ترض فرنسا برحلة الناشئة المغربية، في سبيل العلم، وأصدرت أمرها بمنع الرحلات العلمية بتاتا، وقضت فرنسا نهائيا على المدارس الدينية التي كانت مبثوثة في جميع أطراف المغرب الأقصى والتي كانت تنشر العلوم الإسلامية بين أبناء القبائل البربرية والعربية، فالمغرب يعرف في تاريخه الإسلامي عددا كبيرا من المدارس الدينية، أقامها المغاربة في حواضر البلاد وبواديها وظلت حية نامية، إلى عهد الحماية، وما كادت فرنسا تعتدي على الأمة المغربية وتسلبها استقلالها حتى أصبحت هذه المدارس معرضة للانهيار والدمار، وشرع الموت يدب إلى أن ماتت الآن، وعادت معاهدها خرابا يبابا.
نعم، احتفظت بالحياة، كلية واحدة في المغرب الأقصى هي كلية “القرويين” وذلك بفضل موقعها وتاريخها العلمي المجيد، فهذه الكلية تقع في عاصمة المغرب الفكرية فاس، وقد كان فيها عدد من الطلبة يفوقون الألفين، وكان أساتذتها نحو الستين، وكان المتطوعون فيها يتجاوزون الخمسمائة، وما كادت الحماية تنبسط على مراكش حتى أخذ هذا العدد يتناقص شيئا فشيئا، ولم يزل جمهور الطلبة والعلماء يطالبون بإصلاح هذه الكلية وتقويتها، وإقامتها على أساس حديث، ملائم لحاجات الأمة المغربية، ورغبتها في الحياة منذ سنة 1913 إلى 1931، وفرنسا لا تجيب رغبة من هذه الرغبات، حتى إذا ما أصبح عدد الطلبة قليلا لا يتجاوز السبعمائة، والأساتذة لا يتجاوزون الأربعين أستاذا، وضعف نشاط الطلبة، وضاع ما فيها من عناصر صالحة، وافقت فرنسا حينئذ على إصلاح كلية القرويين، وسمحت بعلاجها علاجا مؤقتا.
أما التعليم الفرنسي الذي أنشأته فرنسا لتنشئة أبناء المسلمين، فليس إلا عبارة عن تعليم صناعي، مقتصر على المهن الحقيرة الصغيرة، مع شيء من الفرنسية والحساب، وليست مدارس هذا التعليم، إلا عبارة عن ورش صغير ومعامل للتجارة والحدادة والدباغة، ورغما عما كان في الاقتصار على هذا النوع الابتدائي من التعليم، من إجحاف بحقوق الأمة المغربية، واكتفت بأن تنشئ لناشئة هذه الأمة التي تبلغ ما فوق العشر ملايين نسمة، عددا من المدارس لا يكاد يبلغ المائة وميزانية هذا التعليم، حسب التحديد الأخير، لم تتجاوز مليونا من الفرنكات، بينما الجالية الأجنبية التي تبلغ مائة ألف فقط، لها من المدارس الابتدائية 123 مدرسة وميزانية تعليمها تزيد على ستة ملايين من الفرنكات يدفعها المغاربة المسلمون من جيوبهم الخاصة. يضاف إلى المدارس التي أنشأتها فرنسا “لأبناء الأعيان” في بعض المدن، فهذه المدارس قاصرة على أعداد الطلبة للقيام بمحادثات فرنسية عادية، وكتابة رسائل تجارية، وهي تدرس لهم بواسطة مدرسين فرنسيين فقط تاريخ الإسلام وتاريخ مراكش الإسلامية، باللغة الفرنسية دون سواها، ولو اطلعتم حضراتكم على ما تحمله هذه الكتب المقررة لأطفالنا، من مطاعن على الإسلام، ونبي المسلمين، وما فيها من دعاية واسعة للاستعمار الفرنسي لوجدتم في هذه الكتب من السموم والجراثيم، ما يفتك بالأمة المراكشية فتكا ذريعا، لوجدتموها عبارة عن دعاية للمسيحية والاستعمار، باسم التاريخ والعلم؟
أما القبائل البربرية أعني الأكثرية العظمى من الشعب المغربي. فقد خلقت لها فرنسا نوعا خاصا من المدارس طردت منه الإسلام رسميا وجعلت المدرسين في هذه المدارس متنصرة القبائل الجزائرية (اليتامى الذين نصرهم لافيجري) ورجال التبشير الفرانسيكان. وأجبرت أطفال البربر على الاندماج في هذه المدارس منذ السنة الخامسة والسادسة. وجعلتها مدارس داخلية لا يسمح لتلامذتها بالانصراف عنها إلى أحيائهم وقبائلهم، إلا بعد الانتهاء من الدراسة. حتى لا يتذكرون دين آبائهم ولا يرسخ في أذهانهم شيء من تعاليم الإسلام.
إبادة اللغة العربية لغة القرآن
وقد جرَت فرنسا في المدارس التي أنشأتها بالمدن على طريقة تؤدي إلى محو اللغة العربية والقضاء عليها وإقامة اللغة الفرنسية مقامها. وكيف تحيا هذه اللغة الشريفة بين ناشئة أمة لا تجد لدراستها من الوقت إلا ساعة واحدة أو ساعتين طول الأسبوع، وفق هذا يجب أن تلاحظوا أيها السادة أن الكتب التي تختارها فرنسا لتعليم العربية (على ضآلة هذا التعليم) إنما هي من كتب الجزويت “التبشيرية”، المعروفة في بلاد الشرق العربي، أما مدارس القبائل البربرية فلا تسمع فيها كلمة عربية أصلا، وقد أبيدت منها لغة القرآن، كما يعبر بذلك الكتاب الفرنسيون مفتخرين مغتبطين.
وقد جعلت فرنسا لغتها هي الرسمية للتعليم البربري، واعتنت عناية خاصة بتكوين شيء اسمه “اللغة البربرية” ووضع له علماء النحو واللغة الفرنسيون نحوا وتصريفا، وجعلت فرنسا هذه اللغة مادة للدراسة. وفرضت كتابتها بالحروف اللاتينية بعد ما كان البربر يكتبونها بالحروف العربية، كل ذلك حرصا على تكوين أجيال منفصلة تمام الانفصال عن الوحدة العربية، منسلخة عن المجتمع الإسلامي، مندمجة كل الاندماج في العنصر الفرنسي الغريب.
أما اللغة العربية في إدارات المغرب ومصالح الحكومة المغربية، فقد وضع بدلها لغة الفرنسيين، وليست هناك مصلحة من المصالح تستعمل اللغة العربية في شيء من الأشياء، يضاف إلى ذلك جميع الإعلانات وأسماء الشوارع ولو حضرتم أيها السادة إلى مدينة كبرى من مدن المغرب الأقصى لما شعرتم أنكم في بلاد عربية إسلامية، ولتخيل لكم أنكم في مرسيليا أو باريس، الأمر الذي أفقد القطر المغربي أهم خصائصه ومزاياه وجعل منه في ظاهره -بفضل الإرادة الفرنسية- قطعة من فرنسا.