حكم ومواعظ

علام الهم
مرَّ إبراهيم بن أدهم برجل وجهه ينطق بالهم والحزن، فقال إبراهيم: إني سائلك عن ثلاث فأجابني.
فقال الرجل: نعم.
فقال إبراهيم :أيجري في هذا الكون شىء لايريده الله؟
فقال الرجل: لا.
قال إبراهيم: أفينقص من رزقك شيء قدره الله؟
فقال الرجل: لا.
قال إبراهيم: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟
فقال الرجل: لا.
فقال إبراهيم: فعلام الهم.
نصيحة
إياك والعجلة فإن العرب كانت تكنيها أم الندامة، لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويقطع قبل أن يقدر، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلا صحب الندامه، واعتزل السلامة.
الحكمة
الحكمة نور الأبصار، وروضة الأفكار، ومطية الحلم، وكفيل النجاح، وضمين الخير والرشد، والداعية إلى الصواب، والسفير بين العقل والقلوب، لا تندس آثارها، ولا تعفو ربوعها، ولا يهلك امرؤ بعد عمله بها.
قال بعض الحكماء
من كثر أكله وشربه كثر نومه، ومن كثر نومه كثر لحمه، ومن كثر لحمه قسى قلبه ومن قسى قلبه
غرق في الآثام.
وقال آخر
اجتنب سبع خصال يسترح جسمك وقلبك ويسلم لك عرضك ودينك :
لا تحزن على ما فاتك، ولا تحمل هم ما لم ينزل بك، ولا تطلب الجزاء على ما لم تعمل، ولا تلم الناس على ما فيك مثله، ولا تغضب على من لم يضرك غضبه، ولا تمدح من لم يعلم من نفسك خلاف ذلك، ولا تنظر بشهوة إلى ما لم تملك.
قال هلال بن العلاء: جعلت على نفسي ألا أكافئ أحداً بشرٍ ولا عقوقٍ اقتداءً بهذه الأبيات:
لمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ *** أَرَحتُ نَفسِيَ مِن غَمّ العَداواتِ
إِنّي أُحيّي عَدَوِّي حينَ رُؤيَتِهِ *** لأَدفَعَ الشَرَّ عَنّي بِالتَحيّاتِ
وأَظهِرُ البِشْرَ لِلإِنسانِ أَبغِضُهُ *** كَأَنَّهُ قَد حُشيَ قَلبي مَسَرّاتِ
قال المبرد: النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه العجب.
قال أبو محمد الحريري: كمال الرجل في ثلاثة: الغربة، والصحبة، والفطنة؛ فالغربة لتذليل النفس، والصحبة للتخلق بأخلاق الرجال، والفطنة للتمكين.

تسلية وترويح
الخـادم الفصيــح
حدّث أبو العيناء قال:‏ كان سبب خروجي من البصرة وانتقالي عنها أنني مررت يومـاً بسوق النخـّاسين، فرأيتُ غلامـاً يـُنادَى عليه وقد بلغ ثلاثين ديناراً، فاشتريته.‏ ‏
وكنت أبني داراً، فدفعتُ إليه عشرين ديناراً على أن ينفقها على الصناع، فجاءني بعد أيام يسيرة فقال:‏ ‏ قد نفدت النفقة،‏ ‏فقلت: هاتِ حسابك!‏ فرفع حسابـاً بعشرة دنانير. قلت: أين الباقي؟‏ قال: قد اشتريت به لنفسي ثوبـاً.‏ قلت: من أمرك بهذا؟‏ ‏ قال: لا تعجل يا مولاي، فإن أهل المروءة لا يعيبون على غلمانهم إذا فعلوا فعلاً يعود بالزَّين على مواليهم!‏ ‏
فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعيّ ولـَمْ أَعلم!‏ ‏ وكانت هناك امرأة أردت أن أتزوجها سرّا من ابنة عمي. فقلت له يومـاً:‏ أفيك خير؟‏ قال: إي لعمري.‏ ‏فأطلعته على الخبر.
فقال: أنا نـِعم العـَون لك.‏ ‏ فتزوجتُ المرأة ودفعتُ إليه ديناراً، وقلت له:‏ اشترِ لنا به بعض السمك الهازبي.‏ ‏فمضى ورجع وقد اشترى سمكـاً من صنف آخر. فغاظني ذلك وقلت:‏ ألم آمرك أن تشتري من السمك الهازبي؟‏ قال: بلى، ولكن الطبيب أبقراط كتب يقول إن الهازبي يولـِّد السوداء، وهذا سمك أقل غائلة!‏ ‏فقلت: أنا لم أعلم أني اشتريت جالينوس!‏ وقمتُ عليه فضربته عشر مقارع، فلما فرغتُ من ضربه أخذني وأخذ المقرعة وضربني سبع مقارع، وقال:‏ ‏ يا مولاي، الأدب ثلاث، والسـَّبـْع فضل، وذلك قصاص، فضربتك هذه السـَّبع خوفـاً من القصاص يوم القيامة!‏ ‏فغاظني هذا، فرميته فشججته، فمضى من وقته إلى ابنة عمي، فقال لها: يا مولاتي، إن الدّين النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مـَنْ غـَشـَّنا فليس منا”، وأنا أُعـْلمك أن مولاي قد تزوج فاستكتمني، فلما قلت له لا بدّ من تعريف مولاتي الخبر ضربني وشجـّني.‏
فمنعتني بنت عمي من دخول الدار، وحالت بيني وبين ما فيها، فلم أر الأمر يصلح إلا بأن طلقت المرأة التي تزوجتها.‏ وقلت في نفسي: أعتقه وأستريح، فلعله يمضي عني.‏‏ فلما أعتقته لزمني وقال:‏ ‏الآن وجب حقـُّك عليّ.‏ ثم إنه أراد الحج، فجهـّزته وزوّدته وخرج. فغاب عني عشرين يومـاً ورجع. فقلت له:‏ ‏ لـِمَ رجعت؟‏ ‏ فقال: فكرت وأنا في الطريق فإذا الله تعالى يقول: “ولله على الناس حـِجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً”، وكنتُ غير مستطيع، وفكرت فإذا حقك أوجب، فرجعت!‏ ‏ثم إنه أراد الغزو، فجهـّزته، فلما غاب عني بعتُ كل ما أملك بالبصرة من عقار وغيره، وخرجت عنها خوفـاً من أن يرجع! ‏ من كتاب “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” لابن الجوزي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *