من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة: بيوع الغرر (الحلقة الثامنة) المخابرة والاستثناء في البيع المفضي إلى الجهالة ياسين رخصي

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثنيا إلا أن تُعلم”(1).

سبق في الحلقة الماضية أن هذا الحديث اشتمل على أربع مسائل، وهي: المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والاستثناء في البيع، تكلمنا عن الأوليين، وفي هذه الحلقة نتكلم عن الأخيرتين، وهما: المخابرة والاستثناء في البيع.
المخابرة
قال النووي: “المخابرة والمزارعة تتقاربان، وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع، كالثلث والربع وغير ذلك من الأجزاء المعلومة”(2).
وقد اختلف أهل العلم في حكم المزارعة، فذهب بعضهم إلى جوازها وذهب آخرون إلى إبطالها، وسبب ذلك تعارض أحاديث هذا الباب، إذ وردت أحاديث دالة على الجواز، وأخرى ظاهرها المنع كقوله صلى الله عليه وسلم: “من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها” رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داوود: “وهذه الأحاديث متفق عليها، وذهب إليها من أبطل المزارعة، وأما الذين صححوها فهم فقهاء الحديث كالبخاري وإسحاق والليث بن سعد..، قال البخاري: “وزارع علي وسعيد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا هم بالبذر فلهم كذا.
وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فيتفقان جميعا، فما يطرح فهو بينهما. ورأى ذلك الزهري”.
وحجتهم: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهذا متفق عليه بين الأمة.
قال أبو جعفر: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم أهلوهم إلى اليوم، يعطون الثلث والربع، وهذا أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم، ولم يبق بالمدينة أهل بيت حتى عملوا به، وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخا، لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به، فنسخ هذا من أمحل المحال”(3).
ثم أجاب ابن القيم رحمه الله عن أحاديث النهي بأجوبة منها: أن المزارعة المنهي عنها هي المزارعة الظالمة الجائرة.
قال البخاري في صحيحه: “وقال الليث: وكان الذي نُهِي عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذووا الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة”(4). قال الحافظ ابن حجر: “وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة لا عن كرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة”(5).
ويدل لقول الجمهور ما في الصحيحين عن حنظلة بن قيس الأنصاري قال: “سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق (أي الفضة) فقال: لا بأس بها، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات (بكسر الذال المعجمة، مسايل المياه، وقيل ما ينبت على حافتي مسيل المياه) وأقبال الجداول (أي رؤوس الجداول، والجدول: النهر الصغير كالساقية) وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به”.
قال النووي: “ومعنى هذه الألفاظ: أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، أو هذه القطعة والباقي للعامل، فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر، فربما هلك هذا دون ذاك وعكسه”(6).
وعليه فالعلة في المنع من المخابرة على هذا الوجه: ما اشتملت عليه من الغرر والخطر.
قال الخطابي رحمه الله: “قد أعلمك رافع بن خديج في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها شروطا فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول ويكون خاصا برب الأرض، والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة. وقد يسلم ما على السواقي ويهلك سائر الزرع، فيبقى المزارع لا شيء له، وهذا غرر وخطر”(7).
الاستثناء في البيع
قوله: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة.. وعن الثنيا إلا أن تعلم”.
الثنيا: الاستثناء.
إلا أن تعلم: أي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيع عن الثنيا إلا أن يكون الاستثناء معلوما، فإذا لم يكن معلوما دخل هذا البيع في الغرر، وذلك أن استثناء المجهول من المعلوم يُصَيِّر المعلوم مجهولا.
مثال الاستثناء المجهول: أن يقول: “بعتك هذه الأرض إلا بعضها، وهذه الأشجار والأغنام والثياب -ونحوها- إلا بعضها” فلا يصح البيع لأن المستثنى مجهول.
وأما إذا كان الاستثناء معلوما فيصح البيع باتفاق العلماء.
ومثاله: أن يقول: “بعتك هذه الأرض إلا هذا الجانب” أو يقول: “بعتك هذه الأغنام إلا هذه” ويعينها، أو “بعتك هذه الأثواب إلا هذا الثوب” وما أشبه ذلك.
والعلة في منع استثناء المجهول ما قدمنا: أنه بيع مشتمل على الغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي، وقال النووي في شرح مسلم (10/195): إسناده صحيح، وتابعه الحافظ في الفتح (5/315)، والحديث أصله في مسلم (1536).
2)- صحيح مسلم بشرح النووي (10/189).
3)- عون المعبود (6/266).
4)- أنظر فتح الباري (5/32).
5)- فتح الباري (5/34-33).
6)- صحيح مسلم بشرح النووي (10/196).
7)- بواسطة عون المعبود (6/263).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *