صرح الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” في خطاب ألقاه أمام أعضاء البرلمان في قصر فرساي أن البرقع أو النقاب الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها يشكل “علامة استعباد” للمرأة، وأن ارتداءه “غير مرحب به” في فرنسا.
وأكد ساركوزي أن البرقع “ليس رمزا دينيا وإنما رمز استعباد للمرأة”.
وأضاف الرئيس الفرنسي “لا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة. هذه ليست الرؤية التي تتبناها الجمهورية الفرنسية بالنسبة لكرامة المرأة”.
هذه الرؤية التي تتبناها الجمهورية الفرنسية بالنسبة لكرامة المرأة نستشفها من تقرير حديث للمجلس الأوروبي أكد أن أرباح أصحاب شبكات الدعارة ومجموعات المافيا التي تعمل في هذا المجال في دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت في الأعوام العشرة الماضية بنسبة 400%، وأن شبكات الدعارة هذه تعرض الآن نصف مليون امرأة للبيع بحيث يبلغ الدخل الذي تحققه النساء فيها لهذه الشبكات ولمزوري الوثائق ومهربي البشر وغيرهم 13 مليار يورو سنويا، فنعم الكرامةَ!!
وطلب الرئيس الفرنسي من برلمان بلاده التوسع في النقاش حول النقاب، كخطوة يتبعها سن قانون يحظر على النساء المسلمات أن يلبسن النقاب في الأماكن العمومية.
وقبل الخوض في مناقشة الموضوع، تجدر الإشارة إلى أن فرنسا ليست أول من أخذ موقفا من الحجاب الإسلامي سواء تضمن ستر الوجه والكفين أو أبداهما، فقد سبقتها كل من هولندا وإيطاليا.
إلا أن ساركوزي كان ذكيا إلى درجة الخبث عندما حاول منذ البداية أن يجعل النقاب خارجا عن الدين الإسلامي، حتى يتجنب الخوض في حرية التدين.
ساركوزي بين الحرية والعلمانية
كيف يمكن أن نفهم مثل هذه التصريحات في الوقت الذي تعتبر حرية المرأة مقدسة في دولة فرنسا؟ وكيف يمكن أن توازن الحكومة الفرنسية بين حماية هذه الحرية وحماية علمانيتها؟
أكيد أن فرنسا لها أن تفعل ما تشاء على أرضها، لكن ليس لها أن يكذب رئيسها على الملأ منكرا شعيرة من شعائر الإسلام بغرض منعها، وحرمان فئة من نساء المسلمين في فرنسا من ممارسة تعاليم دينهم، من أجل حماية علمانية بلاده.
إن كل مسلم مقتنع بأن العلمانية عدو لدود للدين كيف ما كان، فالنزعة المادية التي تحكم هذه المنظومة تجعلها تتناقض مع الإسلام خصوصا في موضوع المرأة، فالمساواة مع الرجل التي تحكم النظرة العلمانية للمرأة بدأت تتراجع بشكل ملفت للنظر، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر حيث دفعت الهجمة الشرسة ضد الإسلام الإنسان الغربي إلى استكشاف هذا الدين العظيم الذي استطاع أن يقاوم قرونا من الحروب الصليبية وعقودا عديدة من الاحتلال الغربي، هذا الاستكشاف رغم كثرة الافتراءات حول الإسلام من طرف المؤسسات الفكرية والسياسية الغربية جعل المواطنين الأوربيين يقتنعون به كدين يخلصهم من عبثية النظم العلمانية التي هدرت كرامة المرأة والرجل معا.
ولنستمع إلى الدكتور هنري ماكوو (وهو أستاذ جامعي أمريكي ومخترع لعبة “scruples” الشهيرة ومؤلف وباحث متخصص في الشؤون النسوية والحركات التحررية) في كتاب له ضمنه فصلا عن النقاب الإسلامي مقارنا إياه بالبكيني الغربي في رمزية دقيقة إلى التناقض بين المرجعيتين تحت عنوان: “البرقع مقابل البكيني فسوق المرأة الأمريكية” كشف فيه زيف إدعاءات تحرير المرأة حيث وصفها بالخدعة القاسية إذ يقول: “تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد، خدعة قاسية أغوت النساء الأمريكيات وخربت الحضارة الغربية”.
كما كشف أيضا الدوافع الخفية لحرب الغرب على الأمة العربية والإسلامية موضحاً أنها حرب ذات أبعاد سياسة وثقافية وأخلاقية، إذ أنها تستهدف ثروات ومدخرات الأمة، إضافة إلى سلبها من أثمن ما تملك: دينها، وكنوزها الثقافية والأخلاقية.
هذه الحرب قد بدأتها فرنسا في المغرب منذ أواخر القرن 19 نستشف بعض ملامحها من خلال ما دوَّنه “موليراس” مبعوث الأكاديمية الفرنسية إلى المغرب سنة 1900م للاتصال بالعلماء ورجال الفكر فيه لتطَّلِعَ الأكاديمية على مستوى تفكيرهم، وبعد لقاء مطول مع علماء القرويين سجل انطباعاته قائلا: “إنه على عاتق الدول الأوربية أن تنزل الضربات التي لا ترحم بمناهج التعليم في مساجد المغرب حيث يترعرع “التعصب”، وينمو منذ قرون في أذهان الطلبة والأساتذة على السواء، هؤلاء الذين يلهبون قلوب الجماعات الشعبية بشعور الكراهية ضد من ليس مسلما”. انظر جامع القرويين للدكتور عبد الهادي التازي.
فهل تغيرت انطباعات فرنسا حول الإسلام وتعاليمه بعد مرور أكثر من قرن؟ كلا.
إن ما جعل أوربا تنكص على عقبيها وتخالف حريات حاربت من أجلها دينها وتقاليدها، هو هذا النزوع نحو الدين من طرف أبناء الجالية المسلمة الذين استعصوا على عملية الإدماج والسلخ من الهوية، فأصبحوا يطالبون بتوفير شروط أفضل لممارسة دينهم ومعتقداتهم، منها إنشاء مسابح للذكور معزولة عن مسابح النساء، الشيء الذي يهدد بالفعل علمانية الدولة ويؤذن بقرب زوالها.
ومع هذا كله فمواقف الساسة الغربيين مبنية على تقدير مصلحة نظمهم وبلدانهم، ولو أدت حماية تلك المصالح إلى كذب رئيس دولة، إذ لا يمكن أن يجهل ساركوزي أن النقاب تشريع رباني إسلامي، خصوصا وأن مراكز دراسات بلاده لم تترك شيئا في مجتمعاتنا إلا وأخضعته للدراسة والتحليل، لكن المؤسف أن تجد المواقف نفسها والتصريحات ذاتها تصدر من بعض المسلمين تنم عن استلاب وغربة..
مغاربة على خطى ساركوزي
من المؤسف حقا أن تجد من الكتاب والصحفيين أناسا يتقمصون دور التنظير ويقومون بالتحليل بناء على مغالطات دون أن يكلفوا أنفسهم البحث فيما سيقدمونه للناس، فمن يقرأ ما كتبه الصحفي توفيق بوعشرين تحت عنوان “البرقع من أين أتى؟” يتملكه الحنق من هول هذا العبث الذي أصبحت تعيشه حياتنا العلمية بفعل الغياب شبه التام للسادة العلماء خصوصا أولائك الجالسين خلف مكاتب وزارة الأوقاف والمجالس العلمية.
ففي نظر الصحفي توفيق “النقاب تقليد اجتماعي ورمز سياسي أكثر منه التزام ديني، ..وهذا التقليد الاجتماعي قادم من إحساس فئات من المجتمعات العربية والإسلامية بأن “هويتها” في خطر، وأن ثقافة الغرب تهدد كيانها، ولهذا فإنها تلجأ إلى مختلف مظاهر “الحماية” و”التميز” و”البعد عن التقليد” حتى وإن سقطت في مظاهر الانعزال والغربة والقطيعة مع الآخر..، كما جعله من ثقافة دول الخليج التي ساهم البترول في جعل “ثقافتها البدوية” ترتدي لبوسا دينيا. ومن صنع طالبان كما اعتبره تعبيرا بالغلط من قبل شارع عربي يائس وغاضب عن مطالبه عن طريق الاختباء خلف رموز وشعارات وفكر يريحه نفسيا لكنه يكبله عقليا.. إنها أحد أخطر مظاهر الأزمة، أن يفقد المرء بوصلة الخروج من النفق”.
أكيد أن أخانا بوعشرين مدير جريدة “أخبار اليوم” هو مَن فقد بوصلة الخروج من نفق العلمانية فلم يلجأ إلى البحث عن الحقائق، وفضل أن ينشر كلاما يكرره العلمانيون مرارا من أجل نفي البعد الديني للكثير من الممارسات الاجتماعية للمسلمين.
ألا يعلم ولو عن طرق الأشرطة الوثائقية أن النقاب أو البرقع أو الحايك كلها مسميات لألبسة تغطي الوجه وسائر بدن المرأة تستمد سندها من القرآن والسنة لكونها تستجيب لشروط الحجاب كما هو مقرر عند الفقهاء منذ فرض الله على النساء الحجاب؟
ولماذا لم يرجع توفيق إلى كتب التفسير والفقه؟
ومساعدة منا له للخروج من نفق العلمانية المظلم نسعفه ببعض أقوال مفسري الأمة وفقهائها:
من التفسير:
– قال المفسر الإمام حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ”: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة) اهـ . تفسير الطبري.
– من الفقه:
روى الإمام مالك (الموطأ بشرح الزرقاني، وانظر نحوه في: أوجز المسالك) ، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: « كنا نُخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق». قال الشيخ الزرقاني «زاد في رواية: فلا تنكره علينا، لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها، أو يُنظر لها بقصد لذة..» اهـ .
وقال الشيخ الحطَّاب (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل): «واعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين. قاله القاضي عبد الوهاب، ونقله عنه الشيخ أحمد زرّوق في شرح الرسالة..»اهـ .
لا أظن أن مدير جريدة أخبار اليوم سيكابر ويدعي أن الصحابي الجليل والفقهاء الأجلاء تأثروا بنفط الخليج أو أنهم يعيشون بين رجال طالبان.