كان بعض الصوفية ولا زالوا يدعون أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، فادعى التجاني -مثلا- أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما وأعطاه صلاة الفاتح!!! ومن المعاصرين؛ ادعى بعض أتباع جماعة العدل والإحسان أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم يقظة في مسيرة لهم تضامنية مع فلسطين، وصعد الحافلة ليوزع عليهم التمر!!!
وقد تعلق هؤلاء المدعون برواية في صحيح البخاري جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من رآني في المنام فسيراني في اليقظة”. وبنوا عليها إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فرأيت أن أخرج هذا الحديث، وأتتبع ألفاظه؛ لأرجح بينها، وأنظر أيها أقوى وأقرب إلى اللفظ الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، وليتضح بجلاء مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه؛ وذلك لما عُلم من أن رواة الحديث كثيرا ما يروون الحديث بالمعنى، فبجمع طرق الحديث وألفاظه، يتجلى معنى الحديث لمن طلبه بإنصاف وتجرد، وذلك برد المجمل من ألفاظه إلى الواضح، والمتشابه منها إلى المحكم، هذا إن أمكن الجمع والتوفيق بين ألفاظه من غير تكلف، وإلا لجأنا إلى الترجيح بينها، فنأخذ بالراجح ونعدل عن المرجوح.
الحديثُ هو ما رواه البخاري قال: حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله (هو ابن وهب) عن يونس عن الزهري حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي).
وقد تابع عبدانَ: أبو الطاهر، وحرملة عند مسلم (2266)، وأحمد بن صالح عند أبي داود(5023)، ويونس بن عبد الأعلى عند البغوي (6/166):
أربعتهم عن عبد الله بن وهب بالإسناد نفسه، غير أنهم قالوا: “فسيراني في اليقظة، أو لكأنما رآني في اليقظة”، على الشك؛ مما يدل على أن أحد رواة الحديث كان يشك في هذه اللفظة، وأن من رواها باللفظ الأول بالجزم قد اختصر الرواية.
وقد جاء في مسند الإمام أحمد من طريق أخرى عن الزهري، ما يدل على أنّ الشك منه، وليس ممن دونه في الإسناد:
قال الإمام أحمد (5/306): ثنا يعقوب حدثني ابن أخي بن شهاب عن محمد بن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي»، فقال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني فقد رآني الحق». وإسناده حسن.
ويؤكد وقوع الشك من الزهري أن الحديث قد رواه غير الزهري عن أبي سلمة بغير شك: أخرجه الإمام أحمد (2/261) وابن حبان (6052) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا، بلفظ: “من رآني في المنام فقد رأى الحق، إن الشيطان لا يتشبه بي”. وإسناده حسن.
فخلاصة القول:
1- أن الزهري كان يشك في هذا الحديث، ويتردد بين قوله: “فسيراني” ، وقوله: “فكأنما رآني”.
2- أن اللفظ الثاني الذي شك فيه الزهري -وهو قوله: «أو لكأنما رآني في اليقظة»- هو الراجح المحفوظ عن أبي سلمة، وذلك لأن الزهري إذا كان قد شك في سماع هذه اللفظة من أبي سلمة؛ فقد تابعه محمد بن عمرو على رواية هذا الحديث عن أبي سلمة من غير شك بلفظ: «من رآني في المنام فقد رأى الحق، إن الشيطان لا يتشبه بي»، أخرجه أحمد (2/261، 425) بإسناده حسن، ومحمد بن عمرو وإن كان في الحفظ ليس بمنزلة الزهري إلا أن روايته هذه تلتقي في المعنى مع اللفظ الثاني الذي شك فيه الزهري، وهو قوله: «كأنما رآني في اليقظة»، فيترجح بذلك هذا اللفظ على قوله: “فسيراني في اليقظة”. خاصة إذا علمنا:
• أن الحديث رواه غير أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: “فقد رآني”:
– فقد أخرجه البخاري (110، 6197) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: “فقد رآني”.
– وأخرجه مسلم (2266) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: “فقد رآني”.
– وأخرجه ابن ماجه (3901) من طريق عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: “فقد رآني”.
– وأخرجه أحمد (2/232،342) من طريق كليب بن شهاب عن أبي هريرة رضي الله عنه الطرق تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن أرجح الألفاظ عن أبي هريرة رضي الله عنه هي لفظ: “فقد رآني”.
• أن الحديث قد رواه جمع من الصحابة بألفاظ مختلفة، ليس فيها “فسيراني في اليقظة”، وهي تلتقي في المعنى مع لفظ: “فكـأنما رآني في اليقظة”، ومن هؤلاء الصحابة:
أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه عنه البخاري (6994) بلفظ: “فقد رآني”.
أبو سعيد الخذري رضي الله عنه: أخرجه عنه البخاري (6997)، بلفظ : “فقد رأى الحق”.
أبو قتادة رضي الله عنه: أخرجه عنه البخاري (6996) بلفظ: “فقد رأى الحق”.
جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه عنه مسلم (2268)، بلفظ : “فقد رآني”.
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أخرجه عنه الترمذي (2267)، وابن ماجه (3900)، وأحمد (1/375،440)، بلفظ: “فقد رآني”.
أبو جحيفة رضي الله عنه: أخرجه ابن ماجه (3904) بلفظ : “فكأنما رآني في اليقظة”.
ابن عباس رضي الله عنه: أخرجه ابن ماجه (3905)، وأحمد (1/361)، بلفظ: “فقد رآني”.
فهذه الروايات المختلفة عن هؤلاء الصحابة تؤكد أن أرجح الألفاظ وأقواها لفظ: “فقد رآني”، وفي معناه الألفاظ الأخرى باستثناء لفظ “فسيراني في اليقظة”، لأن المقصود من الحديث هو تشبيه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، بالرؤية الحقيقة في اليقظة، ولذلك قال: «فإن الشيطان لا يتمثل بي»، وهذا المعنى يتفق مع لفظ :”فقد رأى الحق”، ولفظ: “فكأنما رآني في اليقظة”، قال النووي: “فكأنما رآني فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فقد رآني أو فقد رأى الحق”. (شرح مسلم 15/26).
وأما لفظ “فسيراني في اليقظة”، فقد شك فيه الراوي، ودلت الروايات الأخرى على أنه لفظ مرجوح، فلا داعي لتكلف توجيهه.
* تنبيهات:
1. وقع في مستخرج الإسماعيلي من طريق الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: «فقد رآني في اليقظة» بدل قوله: «فسيراني»” (الفتح 12/383). فهذا يدل على أن الزهري كان يروي الحديث أحيانا على الجادة كما رواه الجماعة من غير شك.
2. قولنا إن لفظ: «فسيراني في اليقظة» لفظ مرجوح، لا يعني التشكيك في منزلة صحيح البخاري؛ لأن أصل الحديث صحيح، وقد رواه البخاري من طرق أخرى ليس فيها هذه اللفظة كما تقدم. وإنما كلامنا في الترجيح بين ألفاظه المختلفة، وقد ثبت أن الراوي كان يشك في هذه اللفظة، ويتردد بين لفظين أحدهما موافق لرواية غيره، فليس من العدل والإنصاف في شيء أن نعدل عن هذا اللفظ الموافق لرواية الجماعة، وأن نتعلق باللفظ الآخر الذي شك فيه راويه ولم يوافقه عليه أحد.
3. استدل بلفظ: “فسيراني في اليقظة” بعض الصوفية كما تقدم، وقد دلت الروايات الصحيحة الثابتة أنه لفظ مرجوح، قد شك فيه راويه، ومما يؤكد بطلان المعنى الذي ذهبوا إليه، أن كثيرا من الناس قد رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ولم يزعم أحد منهم أنه رآه في اليقظة، وظاهر رواية: “من رآني في المنام فسيراني في اليقظة”، يقتضي أن كل من رآه في المنام فسيراه في اليقظة.
4. لجأ بعض العلماء إلى توجيه لفظ: “فسيراني في اليقظة”، على أقوال ذكر بعضَها النوويُّ في شرح مسلم (15 /26):
– أحدها: المراد به أهل عصره، ومعناه أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله تعالى للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عيانا.
– الثاني: معناه أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة لأنه يراه في الآخرة جميع أمته من رآه في الدنيا ومن لم يره.
– الثالث: يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته.