سقوط بيت المقدس (1/2) علاء بكر

..استطاع المسلمون تحرير بيت المقدس من قبضة البيزنطيين الأوروبيين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلت القدس بعدها ولقرون عديدة ينعم بالسلام والأمان من فيها من المسلمين وغيرهم، ولما ضعفت الدولة العباسية بضعف خلفائها وضعف قبضتهم على ما تحت أيديهم؛ ظهرت نزعات انفصالية أقامت دويلات وإمارات مستقلة تدين اسماً للخلافة، وتتحكم بالفعل فيما تحت أيديها من البلاد، وتتقاتل فيما بينها على الحكم والإمارة، وقد ترتب على ذلك تفكك الأمة وتفرق أجزائها فطمع فيها أعداؤها.
فكانت الدولة “الطولونية” ثم الدولة “الأخشيدية” في مصر حتى دخلها الفاطميون، وكانت الدولة “الحمدانية” في حلب، ودولة “السلاجقة” في بغداد، وظهرت الدولة “السامانية” في شرق فارس، ثم الدولة “البويهية” في غربها، والدولة “الغزنوية” في أفغانستان والهند، وانتهزت أوروبا الفرصة لاحتلال الشام من جديد واغتصاب بيت المقدس.
بدأت الحملات الصليبية على الشام من عام “490هـ -1096م”، بتحريض من الباباوات واستجابة من ملوك أوروبا، وقد استطاع الأوربيون حشد الجموع الكبيرة والتوجه بها إلى بلاد المسلمين الذين انشغل أمراؤهم بالصراع بينهم، وعجز الخليفة العباسي عن توحيد صفوفهم.
يقول المؤرخ البريطاني “مونتجمري وات”:
“إنه في نهاية القرن الحادي عشر لم يكن هناك حاكم مسلم قوي في المناطق التي هاجمها الصليبيون، بل كان هناك عدد من الحكام المحليين الصغار الذين أنفقوا الشطر الأول من وقتهم وطاقتهم في قتال جيرانهم”(1)، “وقد كان المسلمون -لو تكاتفوا- قادرين على إبادة هذه الجيوش الصليبية القادمة من أماكن بعيدة ومتفرقة، وقد انتصر المسلمون قديماً على أضعاف هذه الأعداد، ولكن ميراث الشك والعداوة بين حكام المنطقة والتي غرسته وأنبتته طوال القرن السابق حروب ودسائس ومنازعات سادت المنطقة جعل المسلمين عاجزين عن مواجهة قوات الصليبيين”(2).
لقد حشدت أوروبا جموعها وزحفت إلى الشام علناً ولم يتحرك المسلمون لذلك، ويعدوا له العدة اللازمة فبدوا وكأنهم فوجئوا بالصليبيين الغزاة، وتركوا كل صاحب بلد يقف بمفرده أمامهم، وقد خبت روح الجهاد فيهم، وتعلقوا بما في أيديهم من حطام الدنيا، حتى ظهر فيهم من يتألف هؤلاء الصليبيين بعد ذلك، ويستعين بهم في قتال إخوانه المسلمين، ونجح الصليبيون الغزاة في تكوين إمارات لهم بالشام في “الرها” و”أنطاكية” و”طرابلس” واتخذوها مراكز ينقضون منها على بلاد المسلمين حولهم، واستطاعوا فتح بيت المقدس في عام “492هـ/1909م”، وارتكبوا يوم فتحه فظائع وشنائع يندى لها الجبين فأبادوا أهلها، لم يرحموا طفلاً أو امرأة أو عجوزاً، وأصبحت دماء المسلمين أنهاراً، وظلت الجثث مطروحة في الطرقات لا تجد من يواريها حتى تعفنت وفاحت رائحتها، وأبيحت المدينة للسلب والنهب عدة أيام.
يقول ابن كثير رحمه الله:
“لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة(3) أخذت الفرنج -لعنهم الله-، بيت المقدس -شرفه الله-، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين وجاسوا خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا”(4).
ونقل عن ابن الجوزي قوله: “وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة العباسي والسلطان”(5).
“فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا”(6).
“وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون”(7).
يتبع..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) “السلطان صلاح الدين”: مركز السيرة والسنة -المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1425هـ – 2004م ص:16 نقلاً عن: “800 عام على حطين صلاح الدين”.
(2) “الناصر صلاح الدين بطل حطين”. أ د. حمزة النشرتي، الشيخ/ عبد الحفيظ فرغلي، أ د. عبد الحميد مصطفى 1/29- 30.
(3) وذلك قبل ميلاد صلاح الدين الأيوبي بأربعين سنة.
(4، 5، 6، 7) “البداية والنهاية لابن كثير” 6/649- 650.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *