أقبل المسلمون في كل عصر وحين على مائدة القرآن ينهلون منها بحفظه وتدبره وتعلمه، فخصُّوه بعناية ومدارسة لم تكن قط لكتاب قبله، حفظه الملايين من أطفالهم في كل عصر؛ على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، يبتغون فيه موعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأهل القرآن: “يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”. رواه الترمذي وغيره.
وعمد علماء الإسلام إلى ترسيخ علومه وفنونه وتفسيره، وبيان أحكامه وهديه، فألفت في خدمة القرآن آلاف الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.
وأدرك أعداء الإسلام أهمية القرآن في نفوس المسلمين، ومدى تعلقهم به، وأنه مستمسَك عقيدتهم، ومصدر شريعتهم، وأنه باعث نهضتهم، وضمان مستقبلهم، وأن تمسكهم به يجعلهم أمة عصيَّة على الهوان والذل والاستعباد، فأضمروا له العداء، ونصبوا بينه وبين المسلمين السدود ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: 26).
وما أدركه أعداء القرآن في القديم أدركه الأعداءُ الجدد، قال المبشر جون تيكلي: “يجب أن نستخدم القرآن -وهو أمضـى سلاح- ضد الإسلام نفسه، بأن نعلِّم هؤلاء الناس -يعني المسلمين- أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد ليس صحيحاً”( ).
وهكذا توجهت هِمَم القوم إلى إبعاد الأمة المسلمة عن القرآن عبر صنوف من الافتراءات والأكاذيب التي بلغت من كثرتها الألوف من الكتب، عملا بوصية تيكلي التي إن لم يكونوا قد عقلوها لفظا فقد عقلوها معنى.
لقد أصاب العقلية العصرية اليوم -كما قال الزرقاني- مس من المادية والإلحاد والإباحية، فأصبح كثير من المتعلمين تعليما مدرسيا ناقصا لا يهضمون هذه الحقائق العليا ولا يستسيغون فهمها، بل يلقون حبالا وعصيا في سبيل المؤمنين بها ولا شبهة لهم فيما ذهبوا إليه إلا شكوك تلقفوها من هنا وهناك يروِّجونها باسم العقل مرة، وباسم العلم مرة أخرى.
فلما كانت أوروبا قد قطعت شوطا كبيرا في الأخذ بالماديات والركون إلى الفلسفات الشكية واللاأدرية والإلحادية، نتج من ذلك أن اتجه مجموعة من فلاسفة الغرب لدراسة التوراة والإنجيل على ضوء هذه المذاهب والفلسفات، فأسسوا بذلك مدارس تهتم بنقد نصوص الوحي وإجراء الدراسات النقدية والتاريخية عليها.
وإذا كان حال كثير من المستشرقين الحاقدين من أمثال جولدتزيهر وبلاشير وغيرهم قد توجهوا بالطعن مباشرة في نصوص الوحي الكريم لعلمهم بمنزلته ومكانته وخطورته في إذكاء روح التحدي في الأمة، فإن تلامذتهم المخلصين -العلمانيون العرب- كانوا أشد مكرا في المنهج المتبع في الطعن، لعلمهم بمكانة القرآن في نفوس المسلمين، ومدى إتقانه وإحكامه، فالطعن فيه مزلة مدحضة، مسقطة للسمعة من أول الأمر، لذلك فقد كانت طعونهم تحوم حول الحمى.
لقد بات من حقنا اليوم أن نتساءل إن كان ما يقوم به العلمانيون في دراستهم لعلوم القرآن والسنة والتاريخ والأدب.. يندرج في خانة البحث العلمي؟
أم هو تحريف وطعن وسيلة للإجهاز على دين الأمة وتراثها ومحاولة حثيثة لإجهاض التوجه القوي لأبناء المسلمين إلى النهل من المصادر العلمية الشرعية؟ خاصة بعد أن حقق الكتاب الإسلامي رواجا كبيرا، وانتشرت المواقع والغرف الإلكترونية التي تعنى بالجانب الشرعي والتي أصبحت تحاصر انتشار المظاهر العلمانية على مستوى الممارسة والسلوك، ما أثار امتعاض الكثيرين منهم.
والذي يرجح الافتراض الثاني هو أن العلمانيين لم يأتوا البتة بجديد، وأن أعمالهم لا تعدوا أن تكون تكرارا لما سبق أن خطته أنامل المستشرقين وأنتجته أفكارهم.
كما أن غاية البحث عندهم تقف عند مجرد التشكيك، وما وصل منها إلى نتائج تكون الغاية منه صرف الناس عن الحقيقة التي تحملها الآيات وتفيدها الأحاديث.
لقد رأى العلمانيون أن القرآن “حاجز متين، وحصن حصين، يمنع عقول المسلمين وقلوبهم من قبول دعوى العلمانية، ورأوا أن مرجعية المسلمين إلى أحكامه، وتعظيم أوامره عقبة في سبيل نشر أفكارهم.
وبعد مراجعة تجربة الجيل العلماني المؤسس حين حاولوا إبعاد الناس عن اتباع القرآن والتشكيك فيه صراحة وبدون مواربة، ما أثار حفيظة أهل الإسلام، فشنوا عليهم حربا أنهكتهم، ومنتهم بخسائر اجتماعية وثقافية وسياسية كبيرة، وعليه فقد عزم العلمانيون المحدَثون على هدم الحصن من داخله، ولبس العباءة والعمامة قبل الدعوة للتغريب، وامتطاء صهوة جواد العلم قبل الدعوة إلى الضرب بالقرآن عرض الحائط. ورأوا أن هذه الطريقة الملتوية تنطلي على العامة وغير المتخصصين، وتتيح لهم فرصة للهجوم على الدين باسم الدين ولا تثير حفيظة المسلمين ضدهم.
ومما يدل على ذلك قول محمد عابد الجابري وهو يتحدث عن حالة المغرب المعاصر: “يمكن أن تكون الدولة عَلمانية المضمون كما هو الحال اليوم، لكنها لا يمكن أن تتبنى العلمانية شعارا أيديولوجيا، بل لا بد أن تعلن تمسكها بالدين والعمل على نصرته” (نقد الخطاب الديني: نصر حامد أبو زيد ص:43).
ومن هنا كان توجههم للخوض في القرآن الكريم واضح المعنى، معقول المغزى، بين الهدف، وهو الترويج للعلمانية ونشرها، لكن تحت شعارات براقة من قبيل التجديد وتطوير علم التفسير، ليبعدوا أنفسهم عن دائرة الشك والاتهام، وليظهَروا في ثوب الباحث، وأن قراءاتهم قراءات عصرية للقرآن وتطبيق حقيقي لروح الإسلام” (التيار العلماني الحديث وموقفه من القرآن، منى الشافعي).
وسعيا منا في الذب عن كتاب الله عز وجل، وكشف النقاب عن تهافت القراءات الجديدة التي يصبو العَلمانيون إلى التمكين لها، وزعزعة عقيدة المسلمين في القرآن، ارتأت جريدة السبيل فتح هذا الملف؟