من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة: بيوع الربا (الحلقة الخامسة) الأجناس التي يجري فيها الربا ياسين رخصي

سبق في الحلقة الماضية أن الربا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ربا القرض، وربا النسيئة، وربا الفضل؛ وعرفنا أن ربا النسيئة: بيع شيء مما يجري فيه الربا بآخر يجري فيه الربا أيضا نسيئة (أي إلى أجل)، وأن ربا الفضل: بيع الجنس الواحد مما يجري فيه الربا بجنسه مع زيادة في القدر.
فما هي الأجناس التي يحرم فيها التفاضل؟
الأجناس التي يحرم فيها ربا الفضل وآراء العلماء في ذلك:
قال ابن القيم رحمه الله: “الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب والفضة، والبر والشعير، والتمر والملح؛ فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها. [على أقوال].
[القول الأول:] طائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يُروى عنه هذا قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته، مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس.
[القول الثاني:] طائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة.
[القول الثالث:] طائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.
[القول الرابع:] طائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلا أو موزونا، وهو قول سعيد ابن المسيب، ورواية عن أحمد، وقول للشافعي.
[القول الخامس:] طائفة خصته بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك، وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه”(1) انتهى كلام ابن القيم بتصرف يسير، وتمَّ أقوال أخرى لكن هذه أشهرها.

حكمة تحريم ربا الفضل
قال ابن القيم رحمه الله: “وأما تحريم ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به في حديث أبي سعيد الخذري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا”(2) فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين -إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة، وغير ذلك- تذرعوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر(3)، وهو عين ربا النسيئة”(4).

حكمة تحريم ربا النَّساء في المطعوم
قال ابن القيم رحمه الله: “وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالَم، وما يصلحها؛ فمن رعاية مصالح العباد أن مُنِعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل، سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعوا من بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً وإن اختلفت صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها.
وسر ذلك -والله أعلم- أنه لو جوَّز بيع بعضها ببعض نَساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا رَبِحَ، وحينئذ تشح نفسه ببيعها حالَّة لطمعه في الربح، فيعز الطعام على المحتاج، ويشتد ضرره.
وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، لا سيما أهل العمود والبوادي، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام؛ فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء في الأثمان؛ إذ لو جَوَّز لهم النساء فيها لدخلها: “إما أن تَقْضي وإما أن تُرْبي” فيصير الصاع الواحد لو أخذ قُفْزاناً كثيرة، فَفُطِموا عن النساء، ثم فُطموا عن بيعها متفاضلا يداً بيد؛ إذ تجرهم حلاوة الرِّبح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساءً وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين، فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة؛ ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرارٌ بهم، ولا يفعلونه، وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى “إما أن تقضي وإما أن تُرْبي”، فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يداً بيدٍ كيف شاءوا، فحصلت لهم مصلحة المناقلة، واندفعت عنهم مفسدة “إما أن تقضي وإما أن تربي” وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساءً فإن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو منعوا منه لأَضرَّ بهم”(5).
وسيأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله الكلام عن علة جريان الربا في النقذين الذهب والفضة، والحكمة في ذلك.
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- إعلام الموقعين (3/399-400) بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.
(2)- رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد، ومالك في الموطأ عن عمر موقوفا، وانظر تخريج الحديث في حاشية إعلام الموقعين (3/399) تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.
(3)- قد بين رحمه الله هذا المعنى في موضع آخر بقوله: “إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة”.
(4)- إعلام الموقعين (3/399) بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.
(5)- المصدر نفسه (3/402-403).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *